تهريب الأدوية في العراق
تهريب الأدوية في العراق تحوّل إلى واحدة من أخطر الظواهر الصحية والاقتصادية، في بلد أثقلته الحروب وأرهقه الفساد.
لم تعد الصحة العامة أولوية، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة للمتاجرة والمخاطرة.
اليوم، تباع الأدوية في العراق كما تباع السلع الرخيصة في الأسواق الشعبية: بلا هوية، بلا رقابة، وبلا أي ضمان لسلامة من يتعاطاها.
شبكات تهريب معقدة تمتد عبر الحدود، تجلب أصنافا من العقاقير المجهولة المصدر، تُعرض في الصيدليات غير المجازة أو تروج على الأرصفة وفي المحال التجارية.
هذه الأدوية غالبا ما تكون منتهية الصلاحية، أو مقلدة، أو غير خاضعة لأي فحص مخبري، ما يجعلها قنابل موقوتة بين أيدي الفقراء والمحتاجين الذين لا يملكون ثمن العلاج الآمن.
تهريب 40 طنا من الأدوية .. جريمة بحجم وطن
في يونيو 2025، أعلن جهاز الأمن الوطني العراقي عن إحباط عملية تهريب واسعة النطاق، تم خلالها ضبط أربع شاحنات محمّلة بأدوية غير مفحوصة وغير مسجلة رسميا، قادمة من إقليم كردستان باتجاه العاصمة بغداد.
وتقدر كمية الأدوية التي صودرت بنحو 40 طنا، في واحدة من أكبر الضربات الأمنية التي تشهدها البلاد في مجال تهريب الأدوية.
ووفقا للبيان الرسمي، تم توقيف خمسة متهمين خلال العملية، أقر بعضهم بوجود شاحنات إضافية تسير على نفس الطريق، ما يشير إلى شبكة منظمة تستغل طرقا فرعية غير رسمية لتمرير شحنات الأدوية خارج رقابة الجهات المختصة.
وتكشف المعلومات أن العملية جاءت نتيجة متابعة وتحقيق دقيق، حيث نصب كمين محكم في محافظة ديالى، استهدف المسارات الفرعية التي تستخدمها الشاحنات المهربة لتجنب المنافذ الرسمية.
ومع ذلك، لم يتم حتى الآن الكشف عن الجهات التي قد توفر الغطاء أو الدعم لهذه الشبكات، ما يطرح أسئلة حيوية حول مدى تعقد منظومة التهريب داخل العراق.
اقرا ايضا: أزمة الكهرباء في العراق .. فشل حكومي ومعاناة مستمرة
تطور ضبط عمليات تهريب الأدوية (2019 – 2025)
السنة | عدد العمليات المضبوطة | إجمالي الكمية المضبوطة (بالأطنان) | أبرز المحافظات المعنية |
---|---|---|---|
2019 | 6 | 8 طن | بغداد، البصرة، كركوك |
2020 | 9 | 12 طن | أربيل، نينوى |
2021 | 11 | 15 طن | ديالى، الأنبار |
2022 | 14 | 18 طن | بغداد، واسط، بابل |
2023 | 17 | 22 طن | النجف، ميسان |
2024 | 21 | 30 طن | السليمانية، كربلاء |
2025 (حتى يونيو) | 9 | 40 طن | ديالى، بغداد (آخر عملية) |
طرق تهريب الأدوية في العراق .. مافيات تتحرك في الظل
يشير ماهر الزيدي، عضو نقابة الأطباء العراقيين، إلى أن عمليات تهريب الأدوية ليست جديدة، بل تمتد لأكثر من عقدين دون أن تنجح الحملات الأمنية في القضاء عليها.
ويُبرز أن قوة هذه المافيات تكمن في علاقاتها الوطيدة بالأحزاب والجهات المتنفذة، مما يفسر غياب المحاسبة الحقيقية وعدم وجود قضاء فعال يتعامل مع القضية.
ويحمل الزيدي وزارة الصحة جزءا من المسؤولية، مطالبا بضرورة تشكيل فرق ميدانية لفحص الأدوية داخل المخازن والمستشفيات، مشددا على أن حياة المرضى أصبحت في خطر حقيقي جراء تداول هذه الأدوية غير المفحوصة، التي قد تتسبب في أضرار صحية بالغة بسبب غياب الرقابة الصارمة وعدم تطبيق المعايير العلمية اللازمة.
ويضيف أن استمرار هذه الظاهرة ينعكس سلبا على الثقة العامة في النظام الصحي، ويهدد سمعة المؤسسات الطبية، مما يستدعي تحركا سريعا وشفافا من جميع الجهات المعنية لإيقاف هذا الانزلاق.
وزارة الصحة .. نراقب لكن لا ننفذ
دور وزارة الصحة في مواجهة تهريب الأدوية في العراق
في ظل تصاعد المخاوف من انتشار الأدوية المهربة في الأسواق العراقية، أكدت وزارة الصحة أن مسؤولية التصدي لهذه الظاهرة لا تقع على عاتقها وحدها، بل تتعداها إلى الأجهزة الأمنية التي تعد الجهة المعنية بالملاحقة الميدانية وضبط الشحنات على الأرض.
وقال مصدر رفيع في الوزارة، فضل عدم الكشف عن هويته، إن الوزارة تتعامل بجدية مع البلاغات الواردة بشأن الأدوية المهربة، وتعمل بالتنسيق مع الجهات الأمنية المختصة، لكنها ليست جهة تنفيذية تمتلك صلاحية السيطرة على المنافذ الحدودية أو ملاحقة المهربين في الطرق الفرعية.
وأضاف المصدر: “غالبا ما تجري عمليات التهريب عبر طرق برية غير رسمية، تتجاوز فيها الشحنات المشتبه بها نقاط التفتيش والمنافذ القانونية.
وهنا يبرز الدور الجوهري للأجهزة الأمنية في الرصد والتحري والتدخل السريع للحد من هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد صحة المواطن وسلامة السوق الدوائية”.
وتأتي هذه التصريحات في وقت تتزايد فيه الدعوات إلى تكامل الأدوار بين الجهات الرقابية والأمنية لتضييق الخناق على شبكات التهريب التي تستغل ثغرات الرقابة وغياب التنسيق الفعّال بين المؤسسات المعنية.
حدود مستباحة .. والتهريب يسير بخطى واثقة
وسط تصاعد وتيرة تهريب الأدوية في العراق، تكشف التقارير الأمنية والميدانية عن تحول خطير في أساليب المهربين، الذين باتوا يتجنبون المنافذ الحدودية الرسمية، ويتجهون إلى الطرق الفرعية، والممرات الجبلية، وحتى الصحارى، كمسالك بديلة لتمرير شحناتهم بعيدا عن أعين الرقابة.
الخبير الأمني فاضل أبو رغيف أشار إلى أن بعض ضعاف النفوس يستغلون مرونة الحركة داخل إقليم كردستان لتهريب كميات من الأدوية، بعضها منتهي الصلاحية، قائلا: “تهريب الأدوية المنتهية يتم أحيانا تحت غطاء رسمي مزور، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا على صحة المواطنين”.
وأكد أبو رغيف أن هذه الممارسات لا تقتصر على التهريب فحسب، بل تعبر عن خلل في المنظومة الرقابية، داعيا إلى الاستفادة من التجارب الناجحة، مشيرا إلى “نجاح الأجهزة الأمنية في محافظة صلاح الدين بردع المهربين، والذي يجب أن يُعتمد كنموذج يُعمّم على باقي المحافظات، لا سيما تلك التي تعد بوابات تهريب مفتوحة”.
عواقب التهريب .. صحة مهددة وأسعار تحلق
لم يعد خطر تهريب الأدوية في العراق محصورا فقط في الكواليس الأمنية، بل باتت تبعاته تطرق أبواب كل بيت، وتنهك صحة المواطن وجيبه في آنٍ معا.
انتشار الأدوية المهربة التي لا تمر بأي فحص مخبري أو رقابة نوعية تسبب في تفشي علاجات غير فعالة، بل قد تكون قاتلة، فيما أدت هذه الفوضى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الأدوية المرخصة داخل السوق.
تشير تقارير إعلامية وبيانات صيدلية إلى أن أسعار بعض الأدوية القانونية ارتفعت بأكثر من 60% خلال السنوات الثلاث الماضية، في وقت تباع فيه الأدوية المهربة بأسعار أقل بنسبة تتراوح بين 20% إلى 30%.
هذا الفارق السعري يغري الكثير من المرضى، خصوصا أصحاب الدخل المحدود، فيلجؤون إلى المهرب رغم علمهم بخطورته.
مقارنة بين الأدوية المهربة والأدوية الرسمية
العنصر | الأدوية الرسمية | الأدوية المهربة |
---|---|---|
الفحص المخبري | نعم | غالبا لا |
رقابة وزارة الصحة | نعم | لا |
شروط التخزين والنقل | ملتزمة بمعايير دقيقة | عشوائية وغير مبردة غالبا |
السعر | مرتفع نسبيا | أقل بنسبة 20%-30% تقريبا |
نسبة الفعالية | مضمونة بنسبة عالية | غير مضمونة وقد تكون قاتلة |
صلاحية المنتج | موثقة ومثبتة رسميا | مجهولة أو مزورة أحيانا |
صيدليات بين خيارين أحلاهما مر
في خضم فوضى تهريب الأدوية، تجد الصيدليات نفسها عالقة بين مطرقة الرقابة وسندان السوق السوداء، وسط ضغوط متزايدة تهدد مهنية أصحابها وشرعية أعمالهم.
وبحسب تصريحات حيدر المؤذن، النائب الأول لنقيب الصيادلة، فإن أغلب الأدوية المهربة لا تدخل عبر المنافذ الرسمية، بل تصل إلى الأسواق من خلال ممرات غير خاضعة للرقابة، لتوزع لاحقا على بعض الصيدليات عبر حلقات توزيع غير شرعية.
وأشار المؤذن في تصريح صحفي إلى أن النقابة تقوم بمتابعة ميدانية يومية للصيدليات للتأكد من خلوها من الأدوية المهربة، مؤكدا أن التعاون بين وزارة الصحة والنقابة أسهم في تقليص هذه الظاهرة بنسبة ملحوظة، رغم أن القضاء عليها بالكامل ما يزال بعيد المنال.
ولفت إلى أن عمليات التفتيش غالبا ما تواجه عراقيل، تصل أحيانا إلى مستوى التهديد من قبل جهات يشتبه بتوفيرها الحماية للمهربين، مما يعقد عمل الرقابة ويضعها تحت ضغط دائم، ويكشف عن حجم النفوذ الذي تتمتع به بعض الأطراف داخل سوق الدواء غير المشروع.
فشل الإنتاج المحلي وتزايد الاعتماد على الأدوية المهربة
رغم ما يسجل من تطور نسبي في قطاع التصنيع الدوائي العراقي، إلا أن الإنتاج المحلي ما يزال غير قادر على تلبية الاحتياج الفعلي للسوق.
فبحسب تصريحات نقيب الصيادلة السابق، مصطفى الهيتي، ينتج العراق اليوم نحو 1100 نوع دوائي، لكن معظمها يصنف ضمن فئة “الأدوية النمطية”، أي العلاجات الاعتيادية للحالات البسيطة في حين يعاني السوق المحلي من نقص حاد في الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض المزمنة والمعقدة.
هذا النقص يجبر الدولة على الاعتماد بشكل كبير على الاستيراد، حيث قدر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني قيمة واردات العراق من الأدوية بأكثر من 3 مليارات دولار سنويا.
ويدخل جزء كبير من هذه الشحنات عبر المنافذ الحدودية الرسمية، لكن في المقابل، تسجل تسريبات كبيرة عبر طرق التهريب، أو يسمح بدخول شحنات غير مفحوصة، ما يفاقم أزمة الثقة في جودة وسلامة الأدوية المتداولة في السوق.
هذا الوضع يكشف هشاشة النظام الدوائي العراقي، ويطرح تساؤلات حقيقية حول مستقبل الأمن الصحي في بلد تتعدد فيه التحديات، من ضعف الإنتاج المحلي، إلى عشوائية الاستيراد، وصولا إلى انفلات الحدود أمام المهربين.
ثغرات الاستيراد .. أبواب مشرعة للعبث
في زاوية أخرى من مشهد الفوضى الدوائية في العراق، تبرز الثغرات الإدارية والفساد كأحد أخطر أبواب التهريب والتلاعب، حيث يشير مختصون إلى أن بعض المتنفذين يستغلون خللا في آليات الاستيراد داخل وزارة الصحة لإدخال شحنات أدوية دون الخضوع الكامل للفحص أو إجراءات المصادقة الرسمية.
وفي بعض الحالات، تستخدم شركات وهمية كواجهة لإتمام عمليات الاستيراد، بينما تزور بطاقات التعريف الدوائية أو تغير لتبدو الشحنات نظامية.
هذه الثغرات لا تقتصر فقط على وزارة الصحة، بل تمتد لتصل إلى منافذ الجمارك.
وبحسب مصدر في هيئة الجمارك فإن “بعض الشركات تدخل أدوية بكميات كبيرة تحت غطاء مواد غذائية أو مستحضرات تجميل، ما يعقد من مهمة التدقيق ويفتح الباب واسعا أمام التلاعب”.
المواطن هو الحلقة الأضعف
في السوق العراقية، لم يعد شكل العبوة أو ختم الصلاحية ضمانا لسلامة الدواء، بعدما نجحت شبكات التهريب في خداع الجميع، من المواطن العادي إلى المختصين في الصيدلة.
واحدة من أخطر تداعيات هذا التهريب تتمثل في تعريض حياة الناس للخطر المباشر؛ فالأدوية تنقل في شاحنات غير مبردة، وتخزن في مستودعات عشوائية لا تلتزم بأبسط معايير الحفظ، ما يجعل فاعليتها في مهب التلف، أو يحولها إلى مواد ضارة.
الأسوأ من ذلك، أن جزءا من هذه الأدوية يكون منتهي الصلاحية أو مقلدا، لكنه يقدم للمستهلك في عبوة أنيقة مغلفة بإتقان، يصعب حتى على بعض الصيادلة اكتشاف زيفها.
بهذا الشكل، يتحول الدواء من أداة شفاء إلى قنبلة موقوتة داخل جسد المريض، فيما يبقى التحدي الأكبر في غياب وعي المواطن، وتقصير الجهات المعنية في فحص ومراقبة كل ما يعرض في رفوف الصيدليات.
اقرا ايضا: عمالة الأطفال في العراق .. صغار في الجحيم وسط صمت حكومي
الأسئلة الشائعة عن تهريب الأدوية في العراق
يوجد في العراق أكثر من 25 مصنعا وموقعا إنتاجيا مسجلا لصناعة الأدوية.
تتركز معظمها في بغداد، سامراء، وكربلاء. ومع ذلك، لا يغطي الإنتاج المحلي سوى 20-25% من حاجة السوق.
ويُعاني من مشكلات تتعلق بالتقنيات القديمة والاعتماد على المواد الأولية المستوردة.
وفق تقديرات نقابة الصيادلة العراقية، يقدر عدد الصيدليات في العراق بأكثر من 15 ألف صيدلية.
موزعة بين صيدليات أهلية ومؤسساتية، مع وجود تركّز ملحوظ في المحافظات الكبرى مثل بغداد، البصرة، والنجف.
وتواجه هذه الصيدليات تحديات تتعلق بتدفق الأدوية المهربة وصعوبة ضبط السوق.
مجموعة العراق فارما (Iraq Pharma Group) هي تكتل يضم شركات تعمل في استيراد وتوزيع وتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية في السوق العراقي.
تمتلك المجموعة شبكة توزيع واسعة النطاق، وتتعامل مع شركات دوائية دولية لتوريد أصناف متعددة، وتعد من الجهات الفاعلة في السوق الدوائي رغم الانتقادات المتعلقة بشفافية بعض عمليات التوريد.
يعتمد السوق الدوائي العراقي على مزيج من:
الأدوية المحلية الصنع: وتشمل أدوية عامة مثل المسكنات والمضادات الحيوية.
الأدوية المستوردة: تغطي أغلب علاجات الأمراض المزمنة مثل أمراض القلب، السكري، السرطان، والأمراض النفسية، وغالبا ما تستورد من الأردن، إيران، الهند، تركيا، وبعض الدول الأوروبية.
كما تنتشر الأدوية المهربة والمقلدة في السوق، وهو ما يشكل تهديدا صحيا كبيرا للمواطنين.
يقدّر حجم سوق الأدوية في العراق بما يزيد عن 3 مليارات دولار سنويا،
وفق تصريحات رسمية. ويتوقع أن يتوسع هذا الرقم مع ازدياد الطلب على الأدوية نتيجة ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة، لكن السوق يعاني من فوضى في الاستيراد، ومشكلات رقابية كبيرة، إلى جانب تغلغل شبكات التهريب في منظومته.