بين النفي والاعتراف .. أين يقف العراق من مزاعم تجنيد شبابه؟

عراقييون في الجيش الروسي

منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل أكثر من ثلاث سنوات، لم تزل أصداء الصراع تتردد في أصقاع بعيدة جغرافيا عن مسرح المعارك.

وفي قلب هذه الأصداء برز اسم العراق، ليس بصفته طرفا مباشرا في الحرب، بل عبر أخبار متصاعدة حول تورط شبان عراقيين في الانخراط ضمن صفوف المقاتلين على الجبهات المشتعلة.

ففي وقت تتناقل فيه منصات التواصل الاجتماعي صورا ومقاطع فيديو يقال أنها تظهر عراقيين يقاتلون تحت راية الجيش الروسي، يسود الغموض الرسمي، ولا تصدر عن بغداد سوى بيانات مقتضبة وتحذيرات حذرة.

وبين النفي الحكومي والتأكيد غير المباشر من بعثة العراق الدبلوماسية في موسكو، تتزايد التساؤلات: هل تحول شباب العراق إلى وقود إضافي لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟

عراقيون في الجيش الروسي

الخيط الأول في القصة

بدأت أولى الإشارات إلى مشاركة عراقيين في الحرب بالظهور مع منتصف عام 2022، حين نشرت وسائل إعلام أجنبية تقارير تتحدث عن “مرتزقة” من عشرات الدول يقاتلون إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا.

ومع توالي الشهور، أخذت قصص مشابهة تتكرر داخل العراق، متحدثة عن شبكات تغرر بالشباب العاطلين عبر وعود مالية مغرية أو فرص للحصول على الجنسية الروسية.

لكن التحول المفصلي جاء حين ظهر الناشط العراقي حيدر الشمري، الذي قال في مقابلات إعلامية أن قرابة خمسة آلاف عراقي يقاتلون على الجبهات، منهم ألفان مع الروس وثلاثة آلاف مع الأوكران.

وبغض النظر عن مدى دقة هذه الأرقام، فقد أشعلت تصريحاته جدلا واسعا، ودفعت السفارة العراقية في موسكو إلى إصدار بيان عاجل تنفي فيه أي علاقة لها بموضوع إصدار سمات الدخول أو عقود القتال.

الموقف الرسمي العراقي

تحاول الحكومة العراقية منذ البداية الحفاظ على موقع “الحياد” حيال الحرب الروسية الأوكرانية، وهو موقف يتسق مع رغبتها في تجنب الاصطفافات الدولية، غير أن بروز ملف “المقاتلين العراقيين” وضعها في موقف بالغ الحساسية.

  • السفارة العراقية في موسكو أكدت أنها لم ولن تصدر أي تأشيرات مرتبطة بالتجنيد، وأن الجهة الوحيدة المخولة هي السفارة الروسية في بغداد وقنصلياتها. كما شددت على أن العراق متمسك بدعواته للحلول السلمية وإنهاء الحرب بالحوار.
  • الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، صرح بأن الحكومة لا تملك أي أدلة ملموسة على تجنيد رسمي للعراقيين، وكل ما لديها هو صور وفيديوهات متداولة على مواقع التواصل.
  • البرلمان العراقي، عبر لجنتي الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية، أقر بوجود “أعداد غير قليلة من العراقيين” في روسيا، لكن مع تأكيد أن أغلبهم غادروا البلاد بطرق غير نظامية، إما عبر التهريب أو بغطاء السياحة والدراسة والعلاج.

هذا التناقض بين النفي الحكومي والإقرار البرلماني خلق مساحة رمادية، زادتها تصريحات السفارة ضبابية، لتصبح القضية محط تكهنات أكثر منها ملفا مدعما بالأدلة القاطعة.

من المكاتب الوهمية إلى شبكات التهريب

تجمع شهادات وتقارير متقاطعة على أن التجنيد لم يتم عبر قنوات رسمية، بل من خلال شبكات غير شرعية تستغل هشاشة الأوضاع الاقتصادية في العراق.

فقد تحدثت مصادر محلية عن نشاط مكاتب وشركات في محافظة البصرة تتستر خلف واجهات تجارية أو سياحية أو تعليمية، لكنها في الواقع ترتبط بميليشيات محلية تعمل كوسيط مع جهات روسية.

هذه المكاتب تغري الشباب بوعود مالية تصل إلى 2500 – 3000 دولار شهريا، إضافة إلى إمكانية الحصول على الجنسية الروسية بعد فترة من الخدمة.

وتشير بعض التسريبات إلى أن المتقدمين يخضعون لدورات تدريبية قصيرة لا تتجاوز شهرا واحدا، تجرى بشكل “تطوعي” دون راتب، قبل أن يتم زج المؤهلين منهم ضمن وحدات مقاتلة تعرف باسم “المرتزقة”.

ويؤكد الناشط حيدر الشمري أن هناك “مافيات للتهريب” تتلاعب بمصائر الشبان، إذ تجبر بعضهم على القتال بعد أن يكونوا قد تورطوا في عقود أو حصلوا على مبالغ مالية مقدماً.

ويضيف أن عمليات الاحتيال تشمل أيضاً استدراج شبان عبر عقود سفر مزورة أو وعود بفرص عمل مدنية، ليجدوا أنفسهم فجأة في ساحات القتال.

الفقر والبطالة بوابة الاستغلال

لا يمكن فهم ظاهرة التحاق بعض العراقيين بجبهات الحرب دون النظر إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخانقة داخل البلاد.

  • البطالة: تشير إحصاءات رسمية إلى أن نسبة البطالة في العراق تبلغ نحو 17.5%، أي ما يقارب ستة ملايين عاطل عن العمل.
  • الفقر واللا مساواة: يعيش ملايين العراقيين تحت خط الفقر، في ظل تراجع الخدمات الأساسية وتضاؤل فرص التنمية. هذه البيئة جعلت من عروض المال الروسي فرصة مغرية للكثيرين.
  • انعدام الأفق: يرى مراقبون أن شريحة واسعة من الشباب تشعر بالاغتراب داخل وطنها، إذ يفتقرون إلى الأمن الوظيفي والاستقرار السياسي، ما يجعلهم فريسة سهلة لشبكات التجنيد.

ويرى ناشطون أن صمت الحكومة العراقية على هذه الظاهرة قد يكون بمثابة تشجيع غير مباشر، إذ يفسح المجال لوسطاء جددا باستغلال الأزمة الاقتصادية لزجّ الشباب في حرب لا تخصهم.

البطالة في العراق

شهادات ميدانية وصور متداولة

مع كل بيان رسمي يصدر نافيا أو محذرا، تقابل الحكومة بتدفق صور ومقاطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي يُزعم أنها توثق وجود مقاتلين عراقيين في الجبهات.

  • بعض المقاطع أظهرت شبانا يرتدون الزي العسكري الروسي ويرفعون العلم العراقي في مواقع قتالية.
  • أخرى عرضت جثامين قيل إنها تعود لمقاتلين عراقيين قتلوا على الجبهات.
  • كما انتشرت قصص عن شبان عادوا إلى العراق بعد تجارب مريرة، يطلبون المساعدة في العودة إلى حياتهم الطبيعية.

في أغسطس/آب 2024، تحدث النائب عامر عبد الجبار صراحة عن وجود عراقيين جندتهم وزارة الدفاع الروسية، مؤكدا أن الكثير منهم يطلب المساعدة لتسهيل عودته.

هذه التصريحات مثلت أول إقرار شبه رسمي بوجود تجنيد فعلي، رغم إصرار الحكومة على النفي.

عودة الخطر إلى الداخل العراقي

يثير الحديث عن تجنيد عراقيين في الحرب الروسية الأوكرانية مخاوف واسعة داخل الأوساط الأمنية والسياسية العراقية.

فالمسألة لا تتعلق فقط بخروج شباب إلى جبهة قتال بعيدة، بل بما قد يعودون به من خبرات قتالية وعلاقات معقدة مع شبكات دولية وميليشيات محلية.

ويحذّر الخبير الأمني فاضل أبو رغيف من أن عودة المقاتلين العراقيين الذين خاضوا تجارب قتالية في الحرب الروسية ـ الأوكرانية قد تشكل خطرا مباشرا على الأمن الداخلي، لكونهم اكتسبوا خبرات عالية في القتال واستخدام الأسلحة المتطورة، الأمر الذي قد تستغله جماعات مسلّحة داخلية في تعزيز نفوذها.

ويؤكد النائب السابق عامر عبد الجبار أن بعض هؤلاء الشبان الذين انخرطوا في المعارك يطالبون اليوم بالمساعدة للعودة إلى العراق، محذرا من أن تركهم من دون معالجة رسمية قد يؤدي إلى ظهور بؤر مسلحة جديدة داخل البلاد.

من جهته، يرى الباحث في الشؤون الاستراتيجية إحسان الشمري أن الظاهرة تحمل أبعادا سياسية خطيرة، إذ يمكن أن تتحول إلى ورقة ضغط إقليمية تستثمرها أطراف مرتبطة بجهات خارجية، محذرا من أن السكوت الحكومي وغياب خطة لمعالجة العائدين سيفاقم الأزمة.

المرتزقة كظاهرة عابرة للحدود

لم تقتصر ظاهرة المقاتلين الأجانب على العراقيين وحدهم، بل باتت الحرب الروسية ـ الأوكرانية ساحة مفتوحة تتدفق إليها جنسيات متعددة من مختلف القارات.

فروسيا، وفق تقارير إعلامية، استقطبت منذ عام 2022 مقاتلين من أكثر من خمسين دولة، جاء بعضهم من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، حيث يتم إغراؤهم بالمال أو بوعود الحصول على الجنسية.

وفي الجهة المقابلة، تعلن موسكو أن أوكرانيا بدورها استقدمت ما يقارب خمسة عشر ألف مقاتل أجنبي من أكثر من مئة دولة، ما يجعل المرتزقة جزءا لا يتجزأ من مشهد الحرب اليومية.

وقد نشرت وكالة “آر بي سي” الأوكرانية تقريراً في أبريل/نيسان 2024 يؤكد أن روسيا وحدها جندت خلال شهر مايو من العام نفسه أكثر من ألف وخمسمئة أجنبي، بينهم عراقيون، في صفوف جيشها.

إن هذا التنافس المحموم على استقطاب المقاتلين الأجانب يكشف عن تحوّل الحرب الدائرة إلى نزاع عالمي بالوكالة، حيث لم تعد خطوط النار محصورة بين الروس والأوكران، بل امتدت لتشمل عشرات الجنسيات التي تقاتل بدوافع متباينة، أبرزها المال والانخراط في شبكات تجنيد عابرة للحدود.

اقرا ايضا: أزمة المياه في العراق .. الأسباب والتداعيات والخرائط القادمة للعطش

مشاركة عبر:
Facebook
LinkedIn
X
WhatsApp
Telegram

اخبار مختارة

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي