إغلاق قناة “عراق الحدث” ومعركة الإعلام الحر في العراق

حرية الصحافة في العراق

حرية الصحافة في العراق

في زمن تعد فيه حرية التعبير وحرية الصحافة من الركائز الأساسية للديمقراطيات الحديثة، تظل هذه المبادئ في العراق تواجه واقعا مختلفا، يبتعد كثيرا عن النموذج المنشود.

فبينما تتيح هذه الحريات في الدول الديمقراطية المجال لتبادل الآراء بحرية وتعزيز الشفافية والمساءلة، يجد الصحفيون والناشطون في العراق أنفسهم في مواجهة قيود متزايدة وتحديات متشابكة.

ورغم بعض المؤشرات على التقدم في مجالات معينة، فإن البيئة الإعلامية لا تزال محفوفة بالمخاطر.

إذ تتعرض المؤسسات الصحفية لحملات تضييق، ويتعرض الصحفيون للترهيب والاعتقال وحتى التهديد بالتصفية، في ظل غياب بيئة تشريعية تحمي حرية العمل الصحفي وتحاسب المتجاوزين.

وفي هذا السياق، تأتي حادثة إغلاق قناة “عراق الحدث” كأحدث تجلٍ لهذا الواقع القمعي، وتكشف بوضوح كيف تحولت المؤسسات الرقابية، وعلى رأسها هيئة الإعلام والاتصالات، من جهات تنظيمية إلى أدوات تستخدم لإسكات الأصوات الحرة وضبط الرواية الإعلامية بما يخدم السلطة.

واقع حرية الصحافة في العراق والنص الدستوري

رغم أن الدستور العراقي، في مادته 38، ينص بوضوح على كفالة “حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل” و”حرية الصحافة والطباعة والإعلام والنشر”، إلا أن الواقع الميداني يكشف عن فجوة كبيرة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي لهذه الحقوق.

ففي ظل تعقيدات المشهدين السياسي والأمني، أصبحت حرية التعبير في العراق ساحة للصراع بين القوى المتنفذة، وسط ضعف الحماية القانونية للمواطنين والإعلاميين على حد سواء.

وتشير تقارير صادرة عن منظمات دولية ومحلية تعنى بحرية الصحافة وحقوق الإنسان إلى أن التعبير عن الرأي خاصة إذا تضمن نقدا لأداء الحكومة أو القوى السياسية النافذة قد يعرض الصحفيين والمدونين لخطر حقيقي، يصل إلى حد التهديد المباشر، أو الاعتقال، أو حتى الاعتداء الجسدي.

وباتت الصحافة العراقية تتحرك ضمن هوامش ضيقة، تحاصرها القيود القانونية غير المفعلة، وتخنقها الضغوط السياسية والعسكرية.

إذ لم تعد حرية التعبير مجرد قضية قانونية، بل أصبحت في كثير من الأحيان معركة يومية تخوضها المؤسسات الإعلامية والمواطنون في وجه قوى تسعى إلى احتكار السرد الإعلامي وفرض خطاب يخدم مصالحها.

وفي ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح بيئة العمل الإعلامي، تبقى حرية التعبير في العراق مهددة، وتبقى المادة 38 من الدستور مجرد نص جميل على ورق لا يعكس الواقع المعيش.

حرية الصحافة في العراق

إغلاق قناة “عراق الحدث” .. مثال حي على انحسار حرية الصحافة في العراق

في خطوة قمعية فجة تعكس الواقع المتدهور لحرية الإعلام في العراق، اقتحمت قوات أمنية تابعة للحكومة، وبمرافقة ممثل عن هيئة الإعلام والاتصالات، مكاتب قناة “عراق الحدث” في العاصمة بغداد، وأوقفت بثها دون أي إخطار مسبق أو سند قانوني واضح.

هذا الإجراء الذي يشبه ممارسات الأنظمة الاستبدادية، شكل صدمة في الوسط الإعلامي، ورسالة صارخة مفادها: من يلتزم بالمهنية ويقترب من الحقيقة، فمصيره الإغلاق.

إن ما حدث لا يمكن فهمه إلا بوصفه اعتداء سافرا على الإعلام المستقل، ومحاولة واضحة لتكميم الأفواه وضرب أي صوت لا ينسجم مع رواية السلطة.

قناة “عراق الحدث“، التي استطاعت في فترة قصيرة أن تفرض نفسها كمنصة مهنية حقيقية بفضل تغطيتها المباشرة والمتوازنة للأحداث السياسية والاقتصادية، لم ترتكب أي “جريمة” سوى أنها رفضت الانصياع للتوجيهات السياسية، ولم تساوم على استقلالها التحريري.

بدل أن تكون هيئة الإعلام والاتصالات جهة تنظيمية حيادية تحمي التعددية وتدافع عن حرية الرأي، تحولت إلى أداة طيّعة بيد السلطة السياسية والأمنية، تنفذ قراراتها دون مساءلة، وتستهدف القنوات المستقلة بتعليمات غامضة وممارسات بوليسية.

لا بيانات رسمية، ولا أسباب قانونية، فقط قرار سلطوي صامت ينفذ بالقوة ويمرر بالخوف.

هذه ليست مجرد عملية إغلاق إداري، بل تصفية سياسية ناعمة، ومثال صارخ على كيف أصبحت الهيئات الرقابية الرسمية في العراق تتحول إلى أذرع قمعية تمارس الترهيب الإعلامي تحت عباءة القانون.

والنتيجة: إسكات صوت قناة أزعجت السلطة بحيادها، وأربكتها بمصداقيتها.

قناة “عراق الحدث” اليوم لا تمثل مجرد ضحية، بل رمزا لصراع أشمل يخوضه الإعلام العراقي الحر في وجه سلطة تحاول احتكار السرد وتوجيه الخطاب العام.

تصنيف 2025.. العراق يغرق في قاع التدهور الإعلامي

رغم التراجع الطفيف في ترتيب العراق في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025 الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود“، حيث تقدم إلى المركز 155 عالميا بعد أن كان في مراكز أدنى خلال السنوات السابقة، يبقى هذا التحسن شكليا ولا يعكس سوى واقع مأساوي مترد لحرية الإعلام في البلاد.

العراق يحتفظ بمكانة قاتمة كأكثر الدول تسجيلا لقتل الصحفيين على مدار الثلاثين عاما الماضية، حيث تجاوز عدد القتلى 340 صحفيا، وهو رقم يفضح الفشل الذريع للحكومة في توفير بيئة آمنة وحرة للإعلاميين.

يعاني الصحفيون العراقيون من تهديدات متواصلة تستهدفهم من جهات حكومية وأخرى مسلحة، في ظل غياب شبه كامل لأي مساءلة أو محاسبة، مما يغذي ظاهرة الإفلات من العقاب ويعمق مناخ الخوف والرقابة الذاتية في الوسط الإعلامي.

وعلى الرغم من الوعود المتكررة من السلطات، لم تتخذ حتى الآن أية إجراءات حقيقية لحماية حرية الصحافة أو لإقرار قوانين فعالة تضمن حقوق الإعلاميين، مثل قانون “حق الوصول إلى المعلومات”، مما يعكس تهاونًا واضحًا وافتقادًا للإرادة السياسية.

مع هذا الواقع المرير، يظل العراق محاصرا في ذيل قائمة الدول التي تحترم حرية الإعلام، وهو ما يسلط الضوء على هشاشة مؤسسات الدولة وتواطؤها في قمع الأصوات الحرة، ما يشكل تهديدا مباشرا على مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد.

أبرز حالات انتهاك حرية الصحافة في العراق

الحالةالجهة التنفيذيةنوع الانتهاك
إغلاق قناة “عراق الحدث”هيئة الإعلام + الأجهزة الأمنيةسحب ترخيص وإيقاف بث دون سند قانوني
التهديد والقتل (340 صحفيا)جماعات مسلحة / جهات نافذةاغتيال وحملات تخويف تستهدف التحقيقات
توقيف واستدعاء صحفيينكوادر حكومية وقانونيةملاحقات قانونية بتهم “خروج عن النظام”
حرية التعبير في العراق

القوانين أداة قمع أم حماية؟

في الوقت الذي يفترض أن تشكل فيه القوانين حصنا لحماية حرية الصحافة وتعزيز دور الإعلام في الرقابة والمساءلة، يبدو أن الواقع في العراق يسير في الاتجاه المعاكس.

إذ لم تجد التشريعات الضامنة لحرية الصحافة طريقها إلى التطبيق العملي، بل تحولت بعض القوانين والإجراءات الأمنية إلى أدوات لتكميم الأفواه وتقييد التغطيات الصحفية، خاصة عندما تتناول ملفات حساسة كقضايا الفساد، أو أنشطة الجماعات المسلحة، أو الانتهاكات المرتكبة من قبل أجهزة الدولة.

ويواجه الصحفيون في العراق اليوم سلسلة من الانتهاكات تبدأ من الإيقاف التعسفي والملاحقة القانونية، ولا تنتهي عند حدود العنف الجسدي والمعنوي.

وقد أصبحت بعض القوانين، وفي مقدمتها قانون مكافحة الإرهاب، سيفا مسلطا على رقاب الإعلاميين.

فعلى الرغم من أن القانون صمم لمواجهة التهديدات الأمنية الحقيقية، إلا أن بنوده الفضفاضة باتت تستخدم لتوجيه تهم خطيرة للصحفيين، تحت ذريعة “تهديد الأمن الوطني”، وهي تهمة مطاطة تفتح الباب أمام الانتهاك والاستغلال.

وتشير تقارير حقوقية إلى تزايد عدد الحالات التي تم فيها استدعاء صحفيين أو توقيفهم بسبب تقارير استقصائية كشفت عن شبهات فساد أو تجاوزات ترتبط بجهات نافذة.

كما أن استخدام القضاء في ملاحقة الأصوات المستقلة، تحت غطاء قوانين الأمن الوطني، أصبح نمطا متكررا يعكس ضعف استقلالية المؤسسات، وتواطؤها أحيانا مع قوى تحاول إحكام قبضتها على الخطاب الإعلامي.

تجربة قناة “عراق الحدث” لم تكن استثناء، بل امتدادا لهذا النهج القمعي المنظم، حيث جاء قرار إغلاقها دون أي مستند قانوني واضح، بل بتوجيه مباشر من جهات أمنية، وبغطاء من هيئة الإعلام والاتصالات، التي لم تعد جهة تنظيمية، بل تحولت إلى ذراع تنفيذية لإرادة السلطة.

في هذا المناخ، لم تعد الصحافة في العراق مجرد مهنة محفوفة بالمخاطر، بل أصبحت رهينة منظومة قانونية وأمنية تسخر لتقويض استقلاليتها، بدلا من دعم رسالتها الرقابية.

حياة الصحفي في العراق على المحك

لا يزال العراق يصنف ضمن أخطر دول العالم بالنسبة للصحفيين، حيث تحول العمل الإعلامي فيه إلى مهمة محفوفة بالمخاطر قد تصل حدّ فقدان الحياة.

فعلى مدار العقدين الماضيين، دفع عشرات الصحفيين حياتهم ثمنا لمحاولاتهم كشف الحقائق، خاصة في ما يتعلق بملفات الفساد، وتجاوزات الجماعات المسلحة، والصراعات السياسية المتشابكة.

ورغم فداحة هذه الجرائم، نادرا ما يتم الكشف عن الجناة أو تقديمهم إلى العدالة، ما يعزز ظاهرة الإفلات من العقاب ويكرس مناخا من الخوف والرقابة الذاتية داخل الوسط الإعلامي.

وغالبا ما تقف جهات نافذة سواء كانت سياسية أو عسكرية أو ميليشيوية وراء هذه التهديدات والاعتداءات، مستغلة ضعف الدولة وعجزها عن حماية الصحفيين أو مساءلة المعتدين.

منذ عام 2003، وثقت منظمات دولية ومحلية عشرات حالات التهديد والاغتيال التي طالت صحفيين لمجرد قيامهم بواجبهم المهني.

وفي ظل استمرار هذا الواقع، بات الخوف ملازما للصحفي العراقي في كل خطوة يخطوها، ما ينعكس سلبا على نوعية التغطية الإعلامية ويضعف دور الصحافة كمراقب مستقل وصوت للرأي العام.

إن غياب العدالة في جرائم قتل الصحفيين لا يهدد حياة الأفراد فحسب، بل يضرب جوهر حرية التعبير ويقوّض الأسس التي يفترض أن تبنى عليها دولة ديمقراطية.

وسائل الإعلام في العراق

التضييق على وسائل الإعلام

تعد وسائل الإعلام ركيزة أساسية في بناء الوعي المجتمعي، ودورها محوري في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية، وكشف الفساد والانتهاكات.

لكن في العراق، تجد هذه المؤسسات نفسها في قلب معركة غير متكافئة مع قوى نافذة تسعى إلى تقييد دورها وتحجيم استقلاليتها.

فالعديد من وسائل الإعلام العراقية تعمل تحت ضغوط متواصلة من قبل جهات حكومية، وأخرى سياسية أو عسكرية، تمارس نفوذها بشكل مباشر أو غير مباشر على غرف الأخبار وخطوط التحرير.

ويشير مراقبون إلى أن جزءا كبيرا من المؤسسات الإعلامية إما مملوك بشكل صريح لأحزاب وتيارات سياسية، أو يقع تحت تأثيرها المالي والإداري، ما يفقد الإعلام العراقي حياده ويفرغه من محتواه الرقابي والمهني.

من أبرز تجليات هذا التضييق هو القمع الممنهج للتقارير الاستقصائية التي تتناول قضايا الفساد.

إذ تواجه وسائل الإعلام المستقلة التي تجرؤ على كشف ملفات حساسة تهديدات بالإغلاق، أو ضغوطا قانونية ومالية، أو حتى استهدافا مباشرا للعاملين فيها.

وقد تعرضت قنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية خلال السنوات الأخيرة لهجمات متكررة، سواء من قبل الأجهزة الأمنية أو جماعات مسلحة، بسبب نشرها محتوى لا يتماشى مع “الخطوط الحمراء” التي ترسمها السلطة.

في ظل هذا الواقع، باتت الرقابة الذاتية خيارا اضطراريا لكثير من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، الذين يفضلون الصمت أو التخفيف من حدة التقارير، بدلا من مواجهة تبعات لا تحتمل في بيئة تفتقر إلى ضمانات الحماية أو العدالة.

مستقبل حرية التعبير والصحافة في العراق

رغم التحديات الكبيرة والانتهاكات المستمرة التي تواجه حرية التعبير والصحافة في العراق، يظل هناك بصيص أمل يشق طريقه وسط الظلام.

يشهد المشهد الإعلامي حراكا متزايدا من الصحفيين والناشطين الذين لا يزالون مصرين على الدفاع عن حقوقهم وحرية عملهم، رغم المخاطر التي تحيط بهم.

وتتزايد الشراكات بين وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، التي تعمل على تطوير برامج تدريبية وورش عمل تهدف إلى تعزيز مهارات الصحفيين في التعامل مع بيئة عمل محفوفة بالتحديات، وتقوية صمودهم أمام الضغوط السياسية والأمنية.

على الصعيد الدولي، تستمر المنظمات الحقوقية والإنسانية في تقديم الدعم اللازم للصحفيين العراقيين، من خلال رصد الانتهاكات، والدعوة لضمان حمايتهم، ومساندة مبادرات تعزيز حرية الإعلام.

لكن هذا الدعم، مهما كان مهما، لا يغني عن ضرورة تدخل الحكومة العراقية بشكل جدي وفعّال.

فالتحدي الحقيقي يكمن في إرادة سياسية حقيقية تترجم إلى تطبيق صارم للقوانين التي تحمي الصحفيين، وتوفير بيئة إعلامية مستقرة وآمنة، تحترم الحق في الاختلاف والتعددية، وتكفل استقلالية المؤسسات الإعلامية بعيدا عن أي ضغوط أو تدخلات.

اقرا ايضا: عام 2024 يمر والعراق يغرق في مستنقع الفساد

مشاركة عبر:
Facebook
LinkedIn
X
WhatsApp
Telegram

اخبار مختارة

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي