أزمة المياه في العراق
أزمة المياه في العراق باتت تهدد وجود الزراعة والحياة اليومية في كل من الجنوب والوسط، مع انخفاض غير مسبوق في مناسيب دجلة والفرات.
في بلد نشأت فيه أقدم الحضارات على ضفاف الأنهار، يتحول الماء اليوم إلى أكثر الموارد ندرة وقلقا.
العراق، الذي كان يعرف بـ”أرض ما بين النهرين”، يواجه الآن أخطر أزمة مائية في تاريخه الحديث.
حيث تتراجع مناسيب دجلة والفرات بشكل غير مسبوق، وتتصاعد المؤشرات على دخول البلاد مرحلة “الفقر المائي البنيوي” لا الموسمي فقط.
صيف 2025 يحمل في طياته ما يتجاوز حرارة الطقس المعتادة؛ إذ وجدت الحكومة نفسها مضطرة لإعلان حالة الطوارئ المائية في ظل تصاعد غير مسبوق في درجات الحرارة، وتراجع خطير في الإمدادات المائية.
وجاء القرار بإلغاء الزراعة الصيفية بالكامل، ليعكس عمق الأزمة لا كإجراء احترازي، بل كإنذار بانهيار وشيك في منظومة المياه الوطنية، المحاصرة بين مطرقة التعقيدات الإقليمية وسندان الهدر الداخلي والتغير المناخي المتسارع.
ازمة المياه بالأرقام: العراق لا يملك سوى نصف حاجته المائية
في مؤشر خطير على عمق الأزمة، أعلنت وزارة الموارد المائية أن العراق لا يمتلك حاليا سوى 10 مليارات متر مكعب فقط من المياه.
وهو ما يعادل نصف ما يحتاجه البلد للدخول في صيف طبيعي دون شح.
المتحدث باسم الوزارة، خالد شمال، أوضح أن هذه الكمية لا تمثل سوى 40% من الحصة المائية المفترضة.
مؤكدا أن البلاد تشهد أسوأ انخفاض في مستويات المياه منذ ثمانية عقود.
هذا التراجع الحاد في الخزين الاستراتيجي ينذر بعواقب وخيمة، ليس فقط على الزراعة والصناعة، بل حتى على توفير مياه الشرب للمواطنين.
خاصة في مناطق الوسط والجنوب التي تعتمد بشكل شبه كلي على نهري دجلة والفرات.
اقرا ايضا: السدود في العراق .. شريان الحياة ومصدر الطاقة المتجددة
أرقام من ازمة المياه في العراق – صيف 2025
المؤشر | الرقم |
---|---|
الخزين المائي الحالي | 10 مليارات م³ |
نسبة الحصة المائية المفترضة | 40% فقط |
عدد العوائل النازحة بسبب الجفاف | 28 ألف |
فاقد التبخر السنوي | 9 مليارات م³ |
مساحة الزراعة المقررة | 1.5 مليون دونم |
تداعيات ازمة المياه على الزراعة العراقية
في خطوة صادمة تعكس حدة الأزمة المائية، أعلنت الحكومة إلغاء الخطة الزراعية الصيفية بالكامل، في محاولة يائسة للحفاظ على ما تبقى من المياه لتأمين الضروريات، وعلى رأسها مياه الشرب.
القرار، الذي وصفه وزير الموارد المائية عون ذياب بأنه “صعب لكنه لا مفر منه”.
يأتي في ظل صيف استثنائي الجفاف، يضغط بقسوة على الموارد المحدودة ويهدد الأمن المائي للبلاد.
لكن تبعات القرار ثقيلة: آلاف الفلاحين يقفون على حافة الإفلاس، وقطعان الثروة الحيوانية تواجه خطر الهلاك.
في غضون ذلك، تتحدث منظمات الهجرة البيئية عن موجة نزوح غير مسبوقة، تجاوزت 28 ألف عائلة في مناطق الوسط والجنوب، مع توقعات بازدياد الأعداد مع تفاقم الأزمة.
المشهد ينذر بتحول زراعي واجتماعي حاد، ويطرح تساؤلات جدية عن خطط الحكومة طويلة الأمد لمواجهة شبح الجفاف الذي لم يعد استثناء، بل واقعاً دائم التكرار.
سوء إدارة الموارد المائية يعمّق أزمة العراق المائية
رغم أن آثار التغير المناخي باتت واضحة كالشمس، إلا أن الخبراء يرون أن الأزمة المائية في العراق أعمق وأعقد من مجرد ارتفاع درجات الحرارة.
فالبنك الدولي دق ناقوس الخطر منذ عام 2022.
محذرا من أن العراق قد يواجه فجوة مائية تبلغ 11 مليار متر مكعب بحلول عام 2035.
في ظل بنية اقتصادية وإدارية توصف بالهشة، ومؤسسات عاجزة عن التكيف مع التحديات المتصاعدة.
والمفارقة المؤلمة أن البلاد ما زالت تعتمد على أساليب ري تعود إلى آلاف السنين، تستهلك المياه كما لو كانت لا تنضب.
طورهان المفتي، مستشار رئيس الوزراء، أطلقها بصراحة:
“نروي كما كنا نفعل قبل 4 آلاف عام” وكأن الزمن توقف عند شط العرب!.
أبرز التحديات التي تواجه الأمن المائي في العراق
التحدي | التفاصيل |
---|---|
انخفاض الحصة المائية | العراق لا يحصل إلا على 40% من حصته المفترضة من المياه. |
التغير المناخي | ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار يؤثران على الموارد المائية بشكل مباشر. |
الهدر المائي الداخلي | أساليب الري التقليدية تستهلك المياه بشكل مفرط وغير فعّال. |
تحكم دول المنبع | تركيا وإيران تسيطران على منابع دجلة والفرات وتقلصان التدفق نحو العراق. |
غياب الاتفاقيات الملزمة | لا توجد معاهدات دولية فعالة لتنظيم تقاسم المياه بين الدول الثلاث. |
التبخر المرتفع | البلاد تفقد 9 مليارات م³ سنويًا بسبب التبخر في السدود والبحيرات المكشوفة. |
ضعف البنية التحتية | قلة الصيانة وسوء التخطيط يضاعفان الفاقد ويعقّدان المعالجة. |
خلاف العراق مع تركيا وإيران حول تقاسم مياه دجلة والفرات
يعتمد العراق بشكل شبه كامل على نهري دجلة والفرات، اللذين ينبعان من أراضٍ خارج حدوده، وتحديدا من تركيا وإيران.
ما يضعه في موقف تفاوضي هش في مواجهة أزمة مياه متصاعدة.
وفي الوقت الذي توجه فيه بغداد انتقادات لجارتيها بسبب تقليص حصة العراق المائية عبر بناء السدود والتحكم في منابع المياه.
تتبنى تركيا خطابا مغايرا، محملة العراق مسؤولية الهدر الكبير في منظومته الداخلية لإدارة الموارد المائية، وغياب سياسات فعالة للترشيد والصيانة.
وما يزيد من تعقيد المشهد غياب اتفاقيات دولية ملزمة تنظم عملية توزيع المياه بين الدول الثلاث.
فعلى الرغم من توقيع عدد من البروتوكولات والتفاهمات منذ أربعينيات القرن الماضي.
أبرزها اتفاق عام 1946 بين العراق وتركيا.
هذا الواقع يترك العراق في موقع ضعيف أمام قرارات إقليمية تمس أمنه المائي بشكل مباشر.
ويجعل مستقبل البلاد المائي رهن تقلبات سياسية ومناورات دبلوماسية لا تخلو من التوتر والشدّ والجذب.
التبخر يلتهم 9 مليارات متر مكعب من مياه العراق سنويا
إلى جانب التحديات الإقليمية المتعلقة بتقاسم المياه، يواجه العراق أزمة داخلية لا تقل خطورة، تتمثل في الفاقد السنوي الهائل من المياه بسبب التبخر.
ووفقا لرئيس منظمة “طبيعة العراق”، جاسم الأسدي، فإن البلاد تخسر نحو 9 مليارات متر مكعب سنويا نتيجة التبخر، وهي كمية تتجاوز ما تستهلكه دول كاملة مثل الأردن في عام كامل.
هذا الهدر الفادح يعود في جزء كبير منه إلى السدود والبحيرات المكشوفة، وعلى رأسها بحيرة الثرثار، التي تحولت إلى خزانات مفتوحة تعرض المياه لأشعة الشمس المباشرة والحرارة المرتفعة، ما يؤدي إلى فقدان كميات ضخمة لا يمكن تعويضها بسهولة.
الأسدي شدد على أن استمرار هذا النهج يعني أن العراق يفرط بثروته المائية بصمت، داعيا إلى إعادة النظر في تصميم البنى التحتية المائية، والتفكير في حلول مبتكرة مثل الخزانات الجوفية أو على الأقل تقنيات الحد من التبخر، مثل تغطية الخزانات المكشوفة أو استخدام مواد عازلة تقلل من فقدان المياه.
اقرا ايضا: عمالة الأطفال في العراق .. صغار في الجحيم وسط صمت حكومي
تقنين المياه يهدد الزراعة في العراق ويقلّص المساحات المزروعة
رغم تصاعد التحذيرات من أزمة مائية تهدد استقرار البلاد، تركز الحكومة العراقية حاليا على أولوية تأمين مياه الشرب لنحو 46 مليون مواطن، وهو ما يمثل أولوية إنسانية لا خلاف عليها.
لكن هذا التركيز، في ظل المعطيات الحالية، قد يكون قصير الأمد إذا لم يُرافقه إصلاح شامل في إدارة باقي مصادر الاستهلاك.
الخطة الزراعية الجديدة، التي أعلنتها وزارة الزراعة، ستغطي فقط 1.5 مليون دونم من الأراضي المثمرة، وهي مساحة ضئيلة نسبيا مقارنة بالاحتياجات الفعلية.
وتشمل هذه المساحة البساتين ونباتات الخضار التي تعد من المحاصيل الاستراتيجية ولا يمكن الاستغناء عنها، خصوصا في مناطق الفرات الأوسط وجنوب البلاد.
لكن وفق خبراء، فإن هذه الإجراءات الانتقائية في توزيع المياه قد لا تكون كافية إذا استمر النهج التقليدي في استهلاك الموارد.
فحتى توفير مياه الشرب لن يبقى مضمونا في المدى المتوسط، ما لم تعالج مشكلة الهدر في القطاعات الزراعية والصناعية، وهما أكبر مستهلكين للمياه في العراق.
وبينما تؤكد الجهات الرسمية أن الأولوية الآن للجانب الإنساني، يرى مختصون أن الاستجابة الفعالة تستوجب إعادة هيكلة سياسة المياه الوطنية، وفرض رقابة صارمة على الاستهلاك، واعتماد تقنيات ري حديثة، وتدوير المياه الصناعية، لتجنب كارثة بيئية واقتصادية قادمة لا محالة.
نتائج مؤتمر بغداد للمياه 2025: تحذيرات دولية دون تطبيق فعلي
في مارس الماضي، استضافت بغداد المؤتمر الدولي الخامس للمياه تحت شعار: “المياه والتكنولوجيا: شراكة من أجل التنمية”.
الحدث حضره ممثلون عن منظمات أممية ودولية، بينهم ماركو أرسيري، ممثل الأمم المتحدة.
الذي شدد في كلمته على أن “العراق بحاجة إلى تدخل عاجل لحماية مستقبله المائي”.
فيما حذرت منظمة اليونيسف من أن ملايين العراقيين يعانون من صعوبة الوصول إلى مياه نظيفة وصالحة للشرب.
ورغم أهمية هذه المؤتمرات، إلا أن المفارقة تكمن في الفجوة الواسعة بين ما يعلن من توصيات طموحة، وما يتحقق على أرض الواقع.
فالخطط تطرح، والبيانات تصدر، لكن التحول العملي ما زال محدودا للغاية.
وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول جدية التعاطي مع أحد أخطر الملفات التي تواجه البلاد.
خطط الحكومة العراقية لمعالجة أزمة المياه: خطوات محدودة بلا نتائج حاسمة
في محاولة لاحتواء الأزمة، أعلنت الحكومة العراقية عن مجموعة من المبادرات التي وصفت بأنها “خطط طموحة”، تتضمن:
- توزيع 12 ألف جهاز ري حديث خلال عام 2025 لتقليل الهدر الزراعي.
- التحول نحو استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لأغراض الزراعة.
- إنشاء 36 سداً لحصاد مياه الأمطار في المناطق الصحراوية والجافة.
- إعادة استخدام مياه المنازل والصرف الصناعي بدلاً من تصريفها دون فائدة.
لكن خبراء يرون أن هذه الحلول، رغم ضرورتها، لا تمثل أكثر من خطوات جزئية، ولن تؤدي إلى اختراق حقيقي في جدار الأزمة ما لم تواكبها إرادة سياسية واضحة، وضغط شعبي منظم، وتعاون إقليمي جاد مع دول المنبع.
تعقيدات تفاوض العراق مع تركيا وإيران حول المياه
في سياق متصل، يعد الملف التفاوضي مع تركيا وإيران أحد أكثر جوانب الأزمة تعقيدا.
وقد دعا الخبير في شؤون المياه تحسين الموسوي إلى إشراك أطراف دولية مثل الأمم المتحدة أو البنك الدولي لضمان نتائج أكثر تأثيرا في التفاهمات الإقليمية.
الموسوي لفت إلى أن العراق يملك أوراقا اقتصادية فاعلة يمكن توظيفها.
أبرزها الميزان التجاري مع تركيا الذي يتجاوز 24 مليار دولار سنويا، لكنه أشار إلى أن هذه الأوراق لم تستخدم بالشكل الأمثل.
فبدلا من التفاوض على اتفاقات ملزمة وواضحة، اكتفى العراق في معظم الأحيان بإصدار بيانات تفاهم عامة لا تملك أي قوة تنفيذية.
ويرى مختصون أن حل هذا الملف لا يكمن في الخطاب السياسي أو الضغط الإعلامي.
بل في تشكيل فريق تفاوضي محترف، مدعوم قانونيا وفنيا، يمتلك رؤية استراتيجية ويُحسن إدارة الملف بعيدا عن الارتجال أو المجاملة.
أهوار العراق.. الجفاف يهدد التراث العالمي
في الجنوب العراقي، تحتضن البلاد ما تبقى من أهوار الحويزة، والحمار، وأهوار الفرات.
والتي كانت تمتد على مساحة تتجاوز 20 ألف كيلومتر مربع، وتعد واحدة من أقدم البيئات الإنسانية المعروفة في التاريخ، ومهد حضارات سومر وأور والوركاء.
لكن هذه الجنان المائية، التي لطالما شكلت لوحة نادرة من التنوع البيئي والثقافي، باتت اليوم مهددة بالجفاف الكامل.
انخفاض المناسيب المائية، وامتداد اللسان الملحي من الخليج العربي، يواصلان التهامها بصمت.
ما لا يهدد البيئة فحسب، بل يقوض مكونا حضاريا فريدا سجلته اليونسكو ضمن لائحة التراث العالمي منذ عام 2016.
ويعني هذا الإدراج أن العراق بات ملزما دوليا بالحفاظ على هذه المناطق.
ما يجعل تدهورها الحالي مصدر إحراج بيئي وسياسي قد يضع البلاد في مواجهة انتقادات دولية، إذا لم تُتخذ خطوات جادة وعاجلة لإنقاذها.
اقرا ايضا: الاهوار العراقية .. كنز بيئي وتراث عالمي مهدد بالجفاف والانقراض
الأسئلة الشائعة حول ازمة المياه في العراق
يعاني العراق من أزمة مياه متعددة الأسباب، أبرزها التغير المناخي الذي أدى إلى انخفاض معدلات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى الاعتماد على أساليب ري قديمة تستهلك كميات كبيرة من المياه.
كما تلعب الإدارة السيئة للموارد المائية الداخلية دورا كبيرا.
تقوم تركيا وإيران ببناء سدود ضخمة على نهري دجلة والفرات، ما يقلل بشكل كبير من كمية المياه التي تصل إلى العراق. هذا أدى إلى انخفاض حاد في الحصة المائية للعراق، خصوصا خلال فترات الجفاف، ما فاقم الأزمة بشكل حاد.
أعلنت الحكومة العراقية عن عدد من الإجراءات، مثل توزيع أجهزة ري حديث، وإنشاء سدود لحصاد مياه الأمطار، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي في الزراعة.
كما تم تقنين المساحات المزروعة، وإعطاء الأولوية لتوفير مياه الشرب.
ومع ذلك، يعتبر خبراء أن هذه الخطط لا تزال محدودة التأثير، وتحتاج إلى إصلاح شامل في سياسات إدارة المياه والتعاون الإقليمي الفعّال.