خور عبدالله
اين يقع خور عبدالله
في قلب الخليج العربي، وعلى ضفاف مياهه المتداخلة بين جزيرتي وربة وبوبيان من جهة، وشبه جزيرة الفاو من جهة أخرى، يقع خور عبد الله، الممر المائي الذي تحول من قناة للتعاون إلى نقطة اشتعالٍ سياسي وقانوني بين العراق والكويت.
وبينما كان يفترض أن تسهم اتفاقية تنظيم الملاحة الموقعة عام 2012 والمصادق عليها في 2013 في تخفيف التوتر، إذا بها تصبح بذرة صراع دستوري وسيادي في الداخل العراقي.
خور عبدالله العراق والكويت
يمتد النزاع حول خور عبد الله إلى بدايات القرن العشرين، حين بدأت أولى محاولات ترسيم الحدود بين العراق والكويت في ظل النفوذ البريطاني المتنامي في المنطقة.
ففي عام 1913، وُقعت المعاهدة الأنجلو-عثمانية التي أرست أساسا أوليا للحدود، أعقبها مؤتمر العقير عام 1922، الذي جاء ليحدد خطوط التماس بشكل أوضح بين العراق، والكويت، ونجد آنذاك.
لكن تلك الاتفاقيات، وإن بدت واضحة على الورق، لم تحظ بقبول دائم من الحكومات العراقية المتعاقبة، التي رفضت الاعتراف الكامل بترسيم الحدود البحرية كما حددته القوى الحاكمة للعراق والكويت سابقا.
وقد انعكس هذا الرفض في مواقف متكررة ومتوترة، كانت أبرزها الأزمة الكبرى التي انفجرت عام 1990، حين غزا العراق الكويت، ما أدخل المنطقة في واحدة من أخطر الأزمات السياسية والعسكرية في تاريخها الحديث.
وبعد تحرير الكويت في 1991، جاءت التدخلات الدولية لترسي قواعد جديدة للحدود، فأصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 833 في عام 1993، والذي أكد ترسيم الحدود البحرية والبرية بين البلدين وفقا لما رسمته بعثة الأمم المتحدة.
ومع ذلك، ظل خور عبد الله نقطة خلاف مزمنة، حيث يرى فيه العراق منفذه البحري الاستراتيجي، بينما تعتبره الكويت جزءاً لا يتجزأ من سيادتها الوطنية.
اليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على أولى الاتفاقيات، لا يزال خور عبد الله عنوانا لنزاع لم يُطو بعد، وسط محاولات سياسية متكررة للتهدئة، تقابلها موجات من التصعيد الإعلامي والبرلماني في البلدين.
اتفاقية خور عبدالله
في عام 2012، خطت بغداد والكويت خطوة جديدة نحو تنظيم العلاقات البحرية عبر توقيع اتفاقية مشتركة لتنظيم الملاحة في خور عبد الله، أحد أهم الممرات المائية الاستراتيجية في الخليج العربي.
وبالرغم من التباينات السياسية، صادق البرلمان العراقي على الاتفاقية في عام 2013 بموجب القانون رقم 42، ما اعتبر آنذاك مؤشراً على رغبة البلدين في طي صفحة الخلافات القديمة والانفتاح على تعاون إقليمي متوازن.
لكن الاتفاقية سرعان ما عادت إلى دائرة الجدل الحاد، حين أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق قرارا مفصليا في سبتمبر/أيلول 2023، يقضي بعدم دستورية عملية التصديق.
وعللت المحكمة قرارها بأن الاتفاقية لم تحظَ بأغلبية الثلثين المطلوبة داخل مجلس النواب، كما ينص الدستور العراقي عند التصويت على المعاهدات الدولية.
وقد أعاد هذا القرار إشعال النقاشات داخل العراق، بين من يرى أن الاتفاقية تمثل تنازلاً عن السيادة البحرية لصالح الكويت، وبين من يعتبرها إطارا قانونيا ضروريا لتنظيم الملاحة والتعاون المشترك في المنطقة.
كما دفع القرار بملف خور عبد الله مجددا إلى واجهة المشهد السياسي، وسط مطالبات بمراجعة الاتفاقيات الدولية وفق رؤية وطنية شاملة، تراعي المصالح السيادية للعراق دون الإضرار بعلاقات حسن الجوار.
خريطة خور عبدالله
القضاء العراقي في مرمى الضغوط السياسية والإقليمية
لم يكن قرار المحكمة الاتحادية العليا بإبطال التصديق على اتفاقية خور عبد الله مجرد خطوة قانونية، بل تحول إلى شرارة أشعلت واحدة من أعقد الأزمات السياسية في العراق خلال السنوات الأخيرة.
فقد أعقب الحكم انقسامٌ حاد داخل الساحة السياسية العراقية، وسط تزايد الاتهامات بتدخلات خارجية ومحاولات للالتفاف على الإرادة الدستورية.
سرعان ما تحركت رئاستا الجمهورية والوزراء للطعن في قرار المحكمة، ما أثار عاصفة من السخط الشعبي والبرلماني.
واعتبر هذا الطعن خضوعا لضغوط خارجية، مع تزايد الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن ضغوط خليجية، كويتية على وجه التحديد، وحتى عن تدخلات روسية، هدفها إعادة الاعتبار للاتفاقية التي قضت المحكمة بعدم دستوريتها.
اتهامات بـ”التفريط”.. وصوت من الجنوب
النائب عامر عبد الجبار، رئيس “تجمع الفاو زاخو”، كان من أبرز الأصوات المعارضة للطعن، وذهب إلى وصف الاتفاقية بأنها “مذلة” للعراق، متهما الرئاسات الثلاث بالانصياع لإرادة كويتية على حساب السيادة العراقية.
وأعلن عن نجاحه في جمع 96 توقيعا من أعضاء مجلس النواب للمطالبة بسحب الطعن المقدم ضد قرار المحكمة.
حراك شعبي واسع ودعم لموقف القضاء
في موازاة الحراك السياسي، شهدت محافظات جنوب العراق، ولا سيما البصرة، وقفات احتجاجية حاشدة عبّر فيها المواطنون عن رفضهم لأي “تفريط” في السيادة البحرية، مطالبين بدعم القضاء وتثبيت الحكم دوليا.
ورافقت هذه التحركات استقالات داخل المحكمة الاتحادية، وفقا لمصادر مطلعة، رجحت أن تكون نتيجة لضغوط سياسية متزايدة.
كما صدرت بيانات واضحة من جمعيات الصيادين ونقابات بحرية وهيئات مجتمعية، عبّرت عن تأييدها لقرار المحكمة، وطالبت الحكومة العراقية بتوثيق الحكم لدى الأمم المتحدة لضمان عدم التراجع عنه مستقبلا.
القرار الأممي لا يشمل المياه
النائبة زهرة البجاري، رئيسة لجنة النقل والاتصالات النيابية، كانت من أبرز الأصوات المدافعة عن الموقف القضائي، وأكدت في تصريحات متلفزة أن قرار مجلس الأمن 833 لعام 1993 يختص بالحدود البرية فقط، ولا يضفي شرعية على ترسيم الحدود البحرية، مشددة على أن اتفاقية خور عبد الله تمثل “انتهاكاً صريحا للسيادة العراقية”.
البجاري دعت إلى ضرورة إعادة التفاوض مع الجانب الكويتي، ولكن هذه المرة وفقا لأحكام قانون البحار الدولي، وبما يراعي الحقوق البحرية للعراق ويحمي منفذه الجنوبي الحيوي.
تهديد للمصالح الاقتصادية والسيادة البحرية
لا يقتصر الجدل حول اتفاقية خور عبد الله على الجوانب القانونية والسياسية فحسب، بل يمتد ليشمل مخاوف عميقة تتعلق بالأمن القومي والاقتصاد البحري للعراق.
فالخور يعد الشريان البحري الأهم للبلاد، إذ يشكّل المنفذ الحيوي الوحيد لموانئها الكبرى، وعلى رأسها ميناء أم قصر ومشروع ميناء الفاو الكبير، الذي تراهن عليه بغداد لاستعادة موقعها كمركز لوجستي في المنطقة.
وتحذر تقارير برلمانية ومذكرات صادرة عن لجان النقل والموانئ من أن الاتفاقية الموقعة عام 2012، والتي جرى الطعن في دستوريتها لاحقا، تعيق بشكل مباشر حركة الملاحة العراقية.
كما أنها، وفقا لمصادر برلمانية وتقارير متخصصة، أسهمت في رفع تكاليف التأمين على السفن المتجهة إلى الموانئ العراقية، وهو ما يثقل كاهل الاقتصاد الوطني ويضعف تنافسية الموانئ العراقية أمام نظيراتها الخليجية.
ميناء مبارك .. أزمة مزدوجة في خاصرة العراق
وفي قلب هذه الانتقادات، يبرز مشروع ميناء مبارك الكويتي، الذي أقيم على مقربة شديدة من حدود العراق البحرية، في نقطة توصف بأنها “حساسة واستراتيجية للغاية”.
وينظر إلى الاعتراف الضمني بهذا الميناء ضمن سياق اتفاقية خور عبد الله كعامل يفاقم من عزلة العراق البحرية، ويحد من قدرته على التوسع في مجال النقل البحري.
ويرى خبراء بحريون وبرلمانيون أن الكويت، من الناحية التشغيلية، لا تحتاج فعليا إلى هذا الميناء، إذ تمتلك موانئ نشطة ومتعددة.
ومن هذا المنطلق، يعتبر منتقدو الاتفاقية أن استمرارها بصيغتها الحالية لا يصب إلا في مصلحة الكويت، بينما يشكل تهديدا مباشرا للاستقلال الاقتصادي للعراق، ولأمنه القومي على المدى البعيد.
خلافات داخل الطبقة السياسية العراقية
لم يخلُ قرار الحكومة العراقية بالطعن في حكم المحكمة الاتحادية من تداعيات سياسية داخلية، إذ أظهر حجم الانقسام العميق داخل الطبقة الحاكمة حول ملف خور عبد الله.
ففي حين يدافع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عن خطوة الطعن، معتبرا إياها جزءا من سياسة “تصفير المشاكل” مع دول الجوار، إلا أن أطرافا وازنة في المشهد السياسي العراقي ترى في ذلك تراجعا خطيراً أمام الضغوط الخارجية وتفريطا بالسيادة الوطنية.
المفارقة، كما يشير معارضو الطعن، أن التصديق على الاتفاقية جاء في عهد حكومة نوري المالكي، الذي يتزعم اليوم أحد أبرز الأحزاب الممثلة في البرلمان، ما دفع خصومه لاتهامه وحلفاءه بازدواجية المواقف والتغطية على أخطاء الماضي.
من جهته، اعتبر القاضي وائل عبد اللطيف، المعروف بمواقفه القانونية الصارمة، أن الاتفاقية “باطلة من الناحية الدستورية”، مشيدا بقرار المحكمة الاتحادية بوصفه تطبيقا سليما للنصوص الدستورية التي تحظر التنازل عن الأراضي أو المياه العراقية دون تفويض برلماني.
النائب سعود الساعدي ذهب في الاتجاه ذاته، مؤكدا أن المحكمة مارست صلاحياتها بشكل شفاف، ومشددا على أن أية محاولة حكومية للمساس بالحدود دون الرجوع إلى البرلمان تمثل خرقاً واضحا للدستور.
دعم خليجي للكويت وردود عراقية غاضبة
في خضم التصعيد السياسي والقانوني حول اتفاقية خور عبد الله، التزمت الكويت خطابا دبلوماسيا هادئا، واعتبرت ما يجري من تطورات “شأنًا داخليا عراقيا”.
غير أن هذا الهدوء سرعان ما كسر بموقف صريح من مجلس التعاون الخليجي، الذي عقد اجتماعا استثنائيا على مستوى وزراء الخارجية برئاسة الوزير الكويتي، ليؤكد خلاله على ضرورة التزام العراق الكامل بقرارات الأمم المتحدة، وخصوصا القرار 833، مطالبا باستكمال ترسيم الحدود البحرية لما بعد العلامة 162، وهي النقطة التي تمثل منطقة حساسة في الخور محل النزاع.
رد فعل عراقي .. رفض للضغوط والتسويات المجحفة
الموقف الخليجي أثار ردود فعل غاضبة داخل الأوساط السياسية والشعبية في العراق، حيث رأت فيه العديد من القوى “اصطفافا إقليميا ضد المصالح العراقية”، ومحاولة لإعادة فرض وقائع جيوسياسية تعارض السيادة الوطنية.
وقد طالبت أصوات برلمانية وكتل سياسية بارزة الحكومة العراقية برفض أي تسوية “غير عادلة”، وشددت على ضرورة تعليق مشروع الربط السككي مع الكويت، باعتباره ورقة ضغط اقتصادية يجب عدم التفريط بها قبل الوصول إلى حل متوازن وشامل للملف البحري.
وفي خضم هذا التوتر الإقليمي، يزداد المشهد تعقيدا، مع تضارب المصالح وتباين المواقف بين من يدعو للحوار والدبلوماسية، ومن يرى أن المصلحة الوطنية تقتضي التصعيد السياسي والقانوني لحماية ما تبقى من السيادة البحرية العراقية.
اقرا ايضا: الموانئ العراقية .. شرايين الاقتصاد الوطني ومعابر التجارة العالمية