السينما العراقية .. مرآة وطن يحلم بالنهضة

السينما العراقية

السينما العراقية

في مشهد يعيد الأمل إلى الذاكرة السينمائية العراقية، أعلنت السفارة الفرنسية في بغداد مؤخرا عن إطلاق مشروعها الطموح “سينماتيك العراق: نهضة الأفلام من جديد”، بالتعاون مع الحكومة العراقية، في محاولة جادة لإحياء ما اندثر من تراث الصورة العراقية.

المشروع يهدف إلى ترميم الأفلام القديمة وأرشفتها رقميا، تحت إشراف لجنة الذاكرة البصرية العراقية التابعة لمكتب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ليكون بذلك خطوة أولى نحو استعادة هوية سينمائية غابت طويلا خلف ركام الحروب والنسيان.

هذا الإعلان لم يكن مجرد حدث ثقافي عابر، بل فتح الباب واسعا أمام تساؤلات قديمة تتجدد اليوم:

إلى أين وصلت السينما العراقية؟ ولماذا خبا بريقها رغم تاريخها العريق؟

فالعراق، الذي عرف يوما بأنه أحد مراكز الإبداع العربي في الصورة والرواية، قدم للعالم أفلاما تركت بصمتها في المهرجانات الكبرى، من الأوسكار الأميركي إلى مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي.

فمنذ عام 2014 وحتى 2023، حافظت السينما العراقية على حضورها عبر أعمال مثل الرحلة وحدائق معلقة، مؤكدة أن السينما العراقية ليست غائبة، بل تنتظر لحظة استيقاظ جديدة.

الجدول الزمني لتطور السينما العراقية عبر أكثر من قرن

المرحلةالسنةالحدث الأبرزالأثر السينمائي
العروض الأولى1909عرض أول الأفلام الصامتة في بغدادبداية العلاقة بين الجمهور العراقي والسينما
الإنتاج المحلي الأول1940sإنتاج فيلم “القاهرة بغداد”تعاون فني عربي وتأسيس هوية سينمائية عراقية
الحقبة الذهبية1960s–1970sأفلام “نبوخذ نصر” و”الظامئون”دعم رسمي ونهضة فنية كبرى
مرحلة الانقطاع1980s–1990sالحروب والعقوباتتوقف الإنتاج وتراجع دور السينما
النهضة الجديدةبعد 2003ظهور أفلام “ابن بابل” و”حدائق معلقة”ولادة السينما المستقلة العراقية
مشروع الإحياء2025إطلاق مشروع “سينماتيك العراق”ترميم وأرشفة الأفلام القديمة وبداية النهضة

تاريخ السينما العراقية

عند محاولة استرجاع تاريخ السينما العراقية، نجد أنفسنا أمام إرث فني طويل يمتد لعقود، يبرز كيف استطاعت السينما أن تكون أداة للقوة الناعمة والثقافة في المجتمع العراقي.

فبينما شهدت مصر إنتاج أول أفلامها السينمائية عام 1923، كان العراق منذ عام 1909 يعرض الأفلام الصامتة، في مدنه الكبرى، على غرار ما كان يحدث في مصر، قبل أن ينتج أول أفلامه المحلية.

هذه البدايات المبكرة تؤكد أن السينما العراقية كانت حاضرة في المشهد الفني العربي قبل كثير من الدول، رغم التحديات الاجتماعية والتقنية في تلك الحقبة.

دخول السينما إلى العالم العربي كان تدريجيا، وإذا أردنا ترتيب الدول العربية حسب زمن ظهور السينما فيها، نجد أن مصر كانت البداية عام 1896مع عرض الأفلام الأجنبية الصامتة، وكانت الإسكندرية المدينة الأولى التي شهدت هذه العروض، نظرا لتقدمها التجاري والثقافي مقارنة بالقاهرة آنذاك.

تبعتها سوريا ولبنان، قبل أن تصل دور السينما إلى العراق، حيث بدأت عروض الأفلام الصامتة مطلع القرن العشرين، وجذبت شرائح واسعة من الجمهور العراقي.

وعلى الرغم من اعتماد دور العرض العراقية في تلك الفترة على الأفلام الأجنبية الصامتة، ومن أبرزها أعمال شارلي شابلن، إلا أن السينما المصرية بدأت تدخل المشهد العراقي منذ عام 1927، لتفتح أبوابا جديدة للتبادل الفني بين البلدين.

هذا التدفق السينمائي المصري وجد إقبالا واسعا بين الجماهير العراقية، ما دفع عددا من المنتجين المحليين إلى عقد شراكات مع نجوم السينما المصرية، بهدف تطوير الإنتاج الفني المشترك وتعزيز الروابط السينمائية العربية.

فيلم “القاهرة بغداد” .. أول تعاون سينمائي عربي مشترك

ومن أبرز محطات هذه العلاقات السينمائية المشتركة، كان فيلم “القاهرة بغداد“، الذي خرج إلى النور في الأربعينيات من القرن الماضي.

أخرجه المخرج المصري الشهير أحمد بدرخان، وشارك في بطولته مجموعة من نجوم السينما المصرية مثل بشارة واكيم، نورهان، ومديحة يسري، إلى جانب فنانين عراقيين بارزين من بينهم عزيز علي، حضيري أو عزيز، وعادل عبدالوهاب.

يحكي الفيلم قصة شاب عراقي يتهم بقتل عمه، فيضطر للهروب إلى مصر، حيث يلتقي بفتاة مصرية تقع بينهما قصة حب.

تتوالى الأحداث حتى يثبت القضاء العراقي براءته بعد القبض على القاتل الحقيقي، فيعود الشاب إلى بغداد حاملا تجربة جديدة وغنى فنيا وعاطفيا، ليكون الفيلم مثالا على قدرة السينما على نقل الثقافة والتجارب بين الدول العربية وتعميق العلاقات الإنسانية والفنية.

هذه التجربة العراقية في السينما تعكس جهدا متواصلا منذ بدايات القرن العشرين.

حيث سعت السينما العراقية إلى التفاعل مع الإنتاج العربي والأجنبي على حد سواء، ونجحت في بناء جمهور واعٍ، متحمس للفن السينمائي، مما جعل تاريخ السينما العراقية غنيا بالذكريات والإنجازات، ويشكل حجر الأساس لمسيرة سينمائية مستمرة في العراق حتى يومنا هذا.

السينما العراقية

اقرا ايضا: أزمة الكهرباء في العراق .. الأسباب والتحديات والحلول المقترحة

تطور السينما العراقية

مع مرور الزمن، بدأت السينما العراقية تشق طريقها بثبات نحو النضج الفني.

فبعد أن انطلقت في الأربعينيات والخمسينيات بمجموعة من الأفلام ذات الطابع الرومانسي البسيط، التي كانت تستمد قصصها من الحياة الاجتماعية اليومية، شهدت بداية الستينيات تحولا نوعيا في بنية الإنتاج السينمائي في العراق، حيث ظهرت أعمال أكثر عمقًا ونضجًا، من حيث القصة والإخراج والتمثيل.

في عام 1962، شكل إنتاج الفيلم التاريخي نبوخذ نصر نقطة تحول بارزة في تاريخ السينما العراقية.

فقد جاء العمل بإنتاج ضخم، وتمثيل رفيع المستوى ضم نخبة من كبار الممثلين العراقيين، ليعيد تعريف مفهوم الفيلم التاريخي في المنطقة.

لم يكن هذا الفيلم مجرد تجربة فنية، بل كان إعلانا عن دخول العراق مرحلة جديدة من الوعي السينمائي، القائم على الرواية القوية، والإنتاج المتكامل، والاهتمام بالتفاصيل الفنية الدقيقة.

تتابعت بعد ذلك مجموعة من الأعمال التي رسخت هوية السينما العراقية، وأثبتت قدرتها على منافسة الإنتاج العربي والعالمي من حيث الجودة والمعالجة الدرامية.

تحول السينما العراقية من البدايات الاجتماعية إلى النضج الفني

من أبرز تلك الأفلام: “القرار الأخير”، و**”أوراق الخريف، والحارس“**، وهي أعمال جمعت بين القصص الواقعية المؤثرة والبناء الدرامي المحكم، إلى جانب اهتمام غير مسبوق بعناصر مثل الديكور، والأزياء، والإضاءة، وزوايا التصوير.

هذه التفاصيل الدقيقة منحت الأفلام العراقية هوية بصرية خاصة، جعلتها تخرج من دائرة المحاكاة إلى مرحلة الإبداع الأصيل.

ومع تصاعد هذا الزخم الفني، أدركت الدولة أهمية دعم الصناعة السينمائية، فتم تأسيس المؤسسة العامة للسينما والمسرح، التي لعبت دورا محوريا في النهوض بالإنتاج الوطني، ومساندة المخرجين والكتاب الشباب.

ومن خلال هذه المؤسسة، ولد أحد أهم الأفلام في تاريخ العراق السينمائي، وهو فيلم “الظامئون”، الذي جسد ذروة النضج الفني والاجتماعي في السينما العراقية.

يحكي الفيلم قصة واقعية مؤثرة عن القرى العراقية التي تعاني من الجفاف والعطش، كاشفا جوانب إنسانية عميقة في تعامل الناس مع الأزمات البيئية والاجتماعية.

هذه المعالجة الواقعية الصادقة لامست وجدان المشاهد العراقي والعربي على حد سواء، ووجدت صدى عالميا كبيرا، إذ حصد الفيلم جائزة مهرجان طشقند السينمائي الدولي عام 1973، ليصبح علامة فارقة في مسيرة السينما العراقية، ودليلا على قدرتها على منافسة الأفلام العالمية من حيث المضمون والرسالة والصدق الفني.

لقد مثلت تلك المرحلة الذهبية في الستينيات والسبعينيات قفزة نوعية في تاريخ السينما العراقية، حيث تلاقت الرؤية الفنية مع الدعم المؤسسي، لتضع الأسس الأولى لصناعة سينما وطنية تحمل هوية العراق الثقافية والاجتماعية، وتعبر بصدق عن معاناة الإنسان العراقي وطموحاته.

السينما العراقية

الصناعة السينمائية في العراق بعد الغزو الأميركي

منذ عام 2003، ومع دخول الغزو الأميركي للعراق، تلقت الصناعة السينمائية العراقية ضربة قاسية غيرت مسارها بالكامل.

فسنوات الحرب وما تبعها من اضطرابات سياسية وأمنية تركت أثرا بالغا في بنية الإنتاج الفني داخل البلاد.

تراجع الدعم الرسمي للسينما إلى أدنى مستوياته، وتوقفت أغلب دور العرض، بينما اضطر عشرات المخرجين والمؤلفين والفنانين إلى الهجرة نحو دول عربية وأوروبية، بحثا عن بيئة أكثر استقرارا تحفظ لهم مساحة الإبداع وتتيح لهم الاستمرار في العمل الفني.

لكن المفارقة اللافتة أن السينما العراقية، رغم هذه الصعوبات، لم تختفِ. بل على العكس، استطاعت أن تعيد تشكيل نفسها من جديد، فخرجت من إطار المؤسسات الرسمية إلى فضاء الإبداع الفردي.

أصبحت السينما العراقية سينما المهرجانات، تقتحم منصات التتويج العالمية وتثير اهتمام النقاد بجرأتها وصدقها.

إذ عمل المبدعون الذين بقوا داخل العراق، بالتعاون مع شركاء دوليين، على إنتاج أفلام مستقلة تعبر عن الواقع العراقي بصدق وجرأة، وتنقل إلى العالم صورة إنسانية عميقة لما عاشه العراقيون خلال الغزو وبعده.

ولادة السينما المستقلة في العراق .. إبداع من قلب الأزمات

في هذه المرحلة، برزت موجة من الأفلام المستقلة التي حملت هوية عراقية خالصة، لتصبح بمثابة شهادة بصرية على المعاناة والتحولات الاجتماعية التي عاشها البلد.

كثير من النقاد وصفوا هذه المرحلة بأنها ولادة جديدة للسينما العراقية، رغم محدودية الإمكانات، لأنها استبدلت الإنتاج الضخم بالرؤية الصادقة، والتمويل الواسع بالإصرار الفني.

فقد أصبحت السينما العراقية سينما فردية بامتياز، تعتمد على الجهد الذاتي للمخرج والكاتب والفريق الصغير الذي يرافقهم في مواجهة تحديات التمويل والرقابة والظروف الأمنية.

ومن بين أبرز هذه الأعمال، يبرز فيلم “ابن بابل” الذي أُنتج عام 2009، كعلامة فارقة في تاريخ السينما العراقية الحديثة.

الفيلم يحكي رحلة طفل وجدته يجوبان العراق بحثا عن والده المفقود منذ حرب الخليج الثانية، بعدما شاع أن بعض الأسرى العراقيين قد أُفرج عنهم.

بأسلوب إنساني مؤلم وواقعي، كشف الفيلم عمق الجراح التي خلّفتها الحروب، واستطاع أن يلامس وجدان المشاهدين داخل العراق وخارجه، محققًا حضورًا لافتًا في المهرجانات العالمية.

كما جاء فيلم “حدائق معلقة” الذي أُنتج عام 2022 ليكمل هذا المسار الفني، حيث تناول برؤية رمزية قضايا ما بعد الغزو الأميركي، واستطاع أن يلفت الأنظار في المهرجانات الدولية، مؤكدا أن السينما العراقية ما زالت قادرة على قول كلمتها حتى في أحلك الظروف.

مشروع سينماتيك العراق .. عودة الروح إلى الذاكرة البصرية

وفي سياق موازٍ، أعلنت السفارة الفرنسية في العراق في وقت سابق من هذا العام عن مشروع ضخم لترميم وأرشفة الأفلام العراقية بدعم فرنسي كامل، في خطوة تعد إنقاذا لذاكرة السينما العراقية التي تعرضت للإهمال والضياع.

وأكد السفير الفرنسي أن فيلم سعيد أفندي، الذي يجري ترميمه حاليا، سيعرض في الدورة المقبلة من مهرجان “كان” السينمائي الدولي، وهو ما أثار حماس الوسط الثقافي العراقي، وأعاد الأمل بعودة السينما العراقية إلى الواجهة العالمية.

إن مشروع الأرشفة هذا لا ينبغي أن ينظر إليه بوصفه مجرد مبادرة تراثية للحفاظ على تاريخ فني قديم، بل يجب أن يكون نقطة انطلاق جديدة لصناعة سينما حديثة تحمل ملامح العراق الثقافية والاجتماعية، وتعيد للبلاد مكانتها بوصفها منارة للإبداع العربي.

فالسينما العراقية تملك ما لا تملكه كثير من الدول: قصصا حقيقية، وتجارب إنسانية مؤثرة، وذاكرة غنية بالألم والأمل في آنٍ واحد.

ومن هنا، يمكن القول إن إعادة ترميم الأفلام القديمة ليست فقط محاولة لإنقاذ الماضي، بل فرصة لبناء المستقبل، وصياغة هوية بصرية جديدة للعراق في المشهد الثقافي العالمي.

فالعراق، الذي كان يوما ما مركزا للإشعاع الثقافي من بغداد إلى الشام والإسكندرية، يستحق أن تروى حكايته للعالم بعدسة عراقية صادقة، تعكس نبض الإنسان قبل أي شيء آخر.

اقرا ايضا: الدينار العراقي .. من التأسيس إلى التحولات الاقتصادية

أبرز ملامح المشهد السينمائي العراقي اليوم

  • إطلاق مشروع سينماتيك العراق بتمويل فرنسي عام 2025.
  • ترميم عشرات الأفلام الكلاسيكية العراقية.
  • مشاركة أعمال عراقية في مهرجانات عالمية مثل كان وفينيسيا.
  • ازدهار موجة السينما المستقلة بعد عام 2003.
  • ضعف البنية التحتية السينمائية الرسمية مقابل تنامي المبادرات الفردية.
  • تصاعد الاهتمام الدولي بـالذاكرة البصرية العراقية كموروث إنساني فريد.

الأسئلة الشائعة

متى بدأت السينما العراقية فعليا؟

بدأت العروض السينمائية في العراق عام 1909، بينما انطلق أول إنتاج محلي في الأربعينيات مع فيلم القاهرة بغداد.

ما هو أول فيلم عراقي حقيقي؟

يُعتبر فيلم “القاهرة بغداد” أول تعاون سينمائي عربي عراقي وأحد أول الإنتاجات المحلية في الأربعينيات.

ما سبب تراجع السينما العراقية بعد 2003؟

تراجع الدعم الحكومي، الأوضاع الأمنية، وهجرة الكفاءات السينمائية إلى الخارج، كلها عوامل أضعفت الصناعة.

ما هو فيلم “الظامئون” ولماذا يعد محطة مهمة؟

فيلم “الظامئون” (1973) من إنتاج المؤسسة العامة للسينما والمسرح، ويُعد أحد أبرز الأفلام الواقعية في تاريخ العراق، حاز جوائز عالمية وأرسى مرحلة النضج الفني.

ماذا يهدف مشروع “سينماتيك العراق”؟

يهدف إلى ترميم وأرشفة الأفلام العراقية القديمة رقميا بالتعاون بين العراق وفرنسا، لحماية التراث البصري وبناء ذاكرة سينمائية وطنية جديدة.

مشاركة عبر:
Facebook
LinkedIn
X
WhatsApp
Telegram

اخبار مختارة

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي