التسول في العراق .. مافيات منظمة وتهديد أمني يتخطى الفقر

التسول في العراق

التسول في العراق

ظاهرة التسول في العراق لم تعد مجرد انعكاس للفقر، بل تحولت إلى مزيج معقد من الجريمة المنظمة، التهديد الأمني، والتفكك الاجتماعي

على أرصفة بغداد وفي تقاطعات مدن الجنوب والوسط، وبينما تعج الأزقة الضيقة في الأسواق القديمة، يظهر مشهد مألوف ومؤلم: نساء يعانقن أطفالهن، شباب يرتدون ملابس بالية، وأطفال يلاحقون المارة طلبا للصدقة.

هذه المشاهد، التي باتت من يوميات العراقيين، لم تعد تعبيرا عن الفقر وحده، بل تحولت إلى صورة مركبة من الهشاشة الاقتصادية، والاختلال الاجتماعي، وشبكات الجريمة المنظمة، وأيضا هشاشة القوانين.

نصف مليون متسول في العراق

في مشهد بات مألوفا ومثيرا للقلق في آن معا، كشفت الإحصاءات الرسمية عن وجود نحو 500 ألف متسول ينتشرون في شوارع المدن العراقية، من بينهم أعداد كبيرة من الأجانب، ما يشكل ضغطا متزايدا على الواقعين الاجتماعي والأمني في البلاد.

وأكد رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، فاضل الغراوي، أن هذه الأعداد تشمل متسولين من جنسيات مختلفة، مشيرا إلى أن القسم الأكبر من الأجانب ينحدرون من دول آسيوية.

ورغم ما أعلنته وزارة الداخلية العراقية من أنها تمكنت خلال العامين الأخيرين من ترحيل أكثر من 10 آلاف متسول أجنبي، إلا أن الظاهرة تواصل انتشارها بوتيرة متصاعدة.

تغذيها أزمات الفقر، والبطالة، والانفلات الأسري، وغياب سياسات الإيواء والدمج المجتمعي.

وتشير تقارير أمنية إلى أن بعض هذه الحالات لا تندرج ضمن إطار الحاجة الفردية فحسب.

بل باتت مرتبطة بشبكات تسول منظمة تستغل الأطفال والنساء وكبار السن، وتحول التسول إلى مهنة قائمة على الاستغلال المنهجي والتربح غير المشروع.

اقرا أيضا: أزمة المياه في العراق .. الأسباب والتداعيات والخرائط القادمة للعطش

نصف مليون متسول في العراق

أنواع التسول في العراق .. الحاجة ليست دائما السبب

رغم أن التسول ينظر إليه في الغالب كنتاج مباشر للفقر والعوز، إلا أن الواقع العراقي يكشف صورة أكثر تعقيدا وتشعبا لهذه الظاهرة، وفقا لما أكده المتحدث باسم وزارة الداخلية، اللواء خالد المحنا، في تصريح خاص.

فبحسب المحنا، يمكن تصنيف المتسولين في العراق إلى ثلاث فئات رئيسية، تختلف دوافعها وخلفياتها، بل وتتباين في درجة خطورتها على المجتمع:

1. فئة المتسولين المحتاجين فعلا

وتمثل هذه الفئة الشريحة الأكثر بؤسًا، إذ تضم أفرادا يعيشون تحت خط الفقر، ويعانون من انعدام الموارد والدعم الحكومي، ما يضطرهم إلى اللجوء للشارع طلبا للقوت.

2. المتسولون من جنسيات أجنبية

يدخل بعضهم البلاد عبر طرق غير قانونية أو باستغلال تأشيرات مؤقتة، ويستقرون في الأحياء العشوائية أو في محيط الأسواق والتقاطعات الحيوية.

وتعد هذه الفئة محور جدل واسع، نظرا لتداعياتها الأمنية والاجتماعية، فضلا عن شبهات الاتجار بالبشر المرتبطة بها.

3. المتسولون المدفوعون من شبكات منظمة

وهذه هي الفئة الأخطر، بحسب المحنا، إذ تدار من قبل عصابات محترفة تتخذ من التسول نشاطا منظما ومربحا.

وتلجأ هذه العصابات إلى تجنيد الأطفال والنساء، وتدريبهم على أداء مشاهد تمثيلية محزنة، بهدف إثارة الشفقة واستدرار الأموال.

وتشير التحقيقات إلى وجود أساليب ممنهجة في اختيار “الضحايا”، وتوزيعهم على مناطق معينة وفق خطط مسبقة.

أنواع المتسولين في العراق: فقراء، أجانب، وشبكات مافيا

الفئةالوصفمدى الانتشارالخطورة الاجتماعية
المتسولون الحقيقيونأشخاص يعانون من الفقر الشديد أو البطالة ويعتمدون على التسول للبقاء.مرتفعمتوسطة
المتسولون الأجانبيدخلون العراق غالبا بطرق غير رسمية أو عبر تأشيرات مؤقتة ويقيمون بشكل غير قانوني.متوسطمرتفعة بسبب الأثر الأمني
المتسولون التابعون لمافياتيدارون من قبل شبكات منظمة تستغل الأطفال والنساء في التسول الممنهج.منخفض نسبيا لكن منظمعالية جدا – تهديد أمني مباشر

قانون بلا أنياب

رغم مضي أكثر من خمسة عقود على تجريم التسول في العراق، لا تزال الظاهرة تستفحل في الشوارع والأزقة، دون أن تنجح المواد القانونية في الحد منها فعليا.

فبموجب المادة 390 من قانون العقوبات العراقي الصادر عام 1969، يعد التسول جنحة يعاقب عليها بالحبس، إلا أن الواقع الميداني يشي بعكس ذلك تماما.

ففي الوقت الذي تؤكد فيه وزارة الداخلية العراقية مضيها في تنفيذ حملات اعتقال للحد من الظاهرة، تكشف الإحصائيات عن أرقام صادمة.

إذ تم إلقاء القبض على 2291 متسولا في قاطع الرصافة وحده، خلال الفترة الممتدة من 1 كانون الثاني/يناير وحتى 20 تموز/يوليو من عام 2024.

لكن اللافت في الأمر أن العقوبات لا تشكل رادعا فعليا، بحسب ما تؤكده تقارير صحفية ميدانية.

فقد بات السجن محطة مؤقتة لبعض المتسولين، الذين يعتادون الدخول إليه والخروج منه في غضون أيام، ليعودوا بعدها إلى نفس التقاطعات ونفس زوايا الشوارع التي أُلقي القبض عليهم فيها، وكأن شيئا لم يكن.

ويرى قانونيون أن الإشكال لا يكمن فقط في نص القانون، بل في غياب آليات تطبيق رادعة ومستدامة.

فضلا عن افتقار الدولة لبرامج إعادة تأهيل حقيقية تضمن معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للتسول، بدلا من الاقتصار على العقوبة المؤقتة.

وما لم تفعل أدوات الدولة بجدية، ويتحول القانون من مجرد ورقة إلى ممارسة فاعلة، ستظل ظاهرة التسول تتغذى على ضعف الردع، وتزدهر في فراغ العدالة الاجتماعية.

اقرا أيضا: النفايات في العراق .. أزمة بيئية تهدد الصحة والاقتصاد

تسول الأطفال في العراق

في زاوية مظلمة من المشهد العراقي، يتكشف وجه مأساوي لتسول الأطفال.

حيث يتحول العوز والحرمان إلى أداة بيد شبكات الاستغلال، تسخر أجساد الصغار وطفولتهم كوسيلة للكسب، في مشهد يهز الضمير الإنساني.

وبحسب تقرير نشرته صحيفة “إندبندنت عربية”، فإن نحو 13% من أطفال العراق منخرطون في أنشطة تحمل طابع الاستغلال الجسدي والاقتصادي.

وعلى رأسها التسول، الذي بات يتخذ أشكالا متعددة، من مد اليد بشكل مباشر إلى بيع المناديل وتنظيف السيارات في إشارات المرور.

وتشير التقديرات إلى أن عدد الأطفال العاملين في العراق يتجاوز النصف مليون طفل، جزء كبير منهم يعمل في الشارع، وسط غياب شبه تام للحماية القانونية والرقابة الاجتماعية.

أما الصدمة الأكبر، فتتمثل في ما كشفه فاضل الغراوي، رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق:

حيث أكد أن 57% من المتسولين هم أطفال ذكور، بينما تبلغ نسبة الإناث المتسولات 33%، في مشهد يعكس حجم التهديد الذي تتعرض له الطفولة في البلاد.

والأخطر من ذلك، أن جزءا كبيرا من هؤلاء الأطفال لا يعملون لحسابهم.

بل يجبرون على التسول تحت وطأة عصابات منظمة تنتشر في الأسواق الشعبية والمناطق الدينية.

حيث يتم استغلالهم بشكل ممنهج، بعد إخضاعهم أحيانا لبرامج “تدريب” على إثارة الشفقة، أو فرض نظام “حصص يومية” تسلم للعصابة مقابل بقائهم في الشارع.

ويحذر خبراء في شؤون الطفولة من أن استمرار هذه الممارسات لا يهدد حاضر الأطفال فحسب، بل يؤسس لأجيال محرومة من التعليم والرعاية، ومهيأة للانخراط في دوائر الجريمة والتهميش الاجتماعي.

أرقام وحقائق عن التسول في العراق

المؤشرالرقم أو المعلومة
العدد التقديري للمتسولين500,000 متسول في عموم العراق
نسبة الأطفال بين المتسولين57% من الذكور – 33% من الإناث
عدد المتسولين الأجانب المرحلينأكثر من 10,000 خلال عامين
عدد الأطفال العاملين بالعراقيتجاوز 500,000 طفل
عدد المتسولين المقبوض عليهم (2024 – الرصافة)2,291 حالة اعتقال
أنواع المتسولين في العراق

المتسولون الأجانب خلال الزيارات الدينية في العراق

في مواسم الزيارات الدينية الكبرى، التي تستقطب ملايين الزائرين من داخل العراق وخارجه، تتسلل ظاهرة مقلقة بصمت إلى المشهد.

مستغلة روحانية المكان وتعاطف الجمهور: التسول الأجنبي المنظم.

فوفق تقارير أمنية، تعد مدن مثل النجف، كربلاء، الكاظمية، وسامراء محطات مركزية لاستقطاب المتسولين الأجانب.

الذين يتدفقون بأعداد كبيرة إلى البلاد خلال المناسبات الدينية، خصوصا في مواسم الزيارة الأربعينية، والولادات والوفيات الخاصة بالأئمة.

وتكشف المصادر أن العديد من هؤلاء يدخلون العراق بطرق غير شرعية، أو يستغلون تأشيرات الزيارة الدينية المؤقتة.

ثم يبقون في البلاد بعد انتهاء صلاحيتها، لينتشروا في محيط العتبات المقدسة، حيث ترتفع معدلات التعاطف والكرم، ما يجعل تلك المناطق بيئة خصبة للتربح من التسول.

ويحذر مراقبون من أن استمرار هذا النمط من التسول العابر للحدود لا يشكل فقط تحديا إنسانيا وأخلاقيا، بل يمثل أيضا مشكلة أمنية واقتصادية مركبة، تتطلب تنسيقا بين الجهات الأمنية، ووزارتي الداخلية والهجرة.

فضلا عن إجراءات دبلوماسية أكثر صرامة مع الدول المصدرة لهذه الحالات.

التسول.. غطاء للجريمة

لا يقتصر خطر التسول في العراق على الآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية فحسب، بل يمتد إلى أبعاد أمنية بالغة الخطورة.

تكشف التحقيقات الأمنية عن أن بعض شبكات التسول المنظمة تستخدم كغطاء لأنشطة إجرامية خطيرة، تشمل السرقة، الاحتيال، تجارة المخدرات، وحتى الدعارة.

وفي هذا السياق، دعا الناشط الحقوقي المعروف علي المياحي إلى إدراج شبكات التسول ضمن قانون مكافحة الإرهاب، معتبرا أن هذه العصابات تشكل تهديدا مجتمعيا حقيقيا يستدعي مواجهتها بأدوات قانونية صارمة وفعالة.

مافيات الاتجار بالبشر وتسول الأطفال في العراق

يحذر مسؤولون عراقيون من تنامي خطورة مافيات الاتجار بالبشر التي تستغل ظاهرة التسول في تنفيذ أعمال غير قانونية، مؤكدين أن هذه الشبكات باتت تشكل تهديدا أمنيا ومجتمعيا حقيقيا.

وأوضح العميد مقداد ميري، المتحدث باسم وزارة الداخلية، أن الأجهزة الأمنية قد فككت مؤخرا عدة عصابات واعتقلت قياداتها، مع استمرار الجهود لرصد ومكافحة تلك المافيات في بغداد وبقية المحافظات.

من جهته، شدد عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان، علي نعمة، على ضرورة تكثيف العمل الأمني والرقابي، لا سيما في مواجهة المافيات التي ترتبط بشبكات دولية، وتستغل المتسولين في جرائم تشمل حتى سرقة الأعضاء البشرية.

وفي السياق ذاته، دعا رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، إلى تطبيق استراتيجية أمنية ومدنية شاملة للقضاء على هذه المافيات، مع تعديل القوانين لتعزيز العقوبات، وتوسيع دور حماية الضحايا، إلى جانب إطلاق حملات توعوية مكثفة.

اقرا أيضا: القادة الإيرانيون المستهدفون في العدوان الإسرائيلي على إيران

الأسئلة الشائعة حول التسول في العراق

ما هي عقوبة التسول في القانون العراقي؟

بحسب المادة 390 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، يعد التسول جنحة يعاقب عليها القانون بالحبس لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر.
مع إمكانية تشديد العقوبة إذا كان المتسول يستخدم الأطفال أو يعاني من حالة سكر أو يظهر علامات القوة الجسدية.

كم مدة سجن التسول؟

مدة السجن تتراوح عادة بين أسبوعين إلى ثلاثة أشهر، حسب تقدير المحكمة وظروف الحالة.
وقد تستبدل العقوبة بغرامة أو يتم الإفراج عن المتسول في وقت قصير بسبب اكتظاظ السجون أو عدم توفر أدلة كافية.

ما هي قضية التسول؟

قضية التسول في العراق لم تعد مسألة فردية أو نتيجة مباشرة للفقر فقط، بل تحوّلت إلى ظاهرة مركّبة ذات أبعاد اجتماعية وأمنية.
تتداخل فيها مافيات الاتجار بالبشر، شبكات الجريمة المنظمة، ضعف القوانين، وانعدام آليات الحماية الاجتماعية.
ما يجعلها من أخطر التحديات التي تواجه الدولة والمجتمع.

مشاركة عبر:
Facebook
LinkedIn
X
WhatsApp
Telegram

اخبار مختارة

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي